تتابع بعض المناظرات في الوطن العربي حول «فصل الدين عن الدولة»، كما حصل قبل سنوات بين الدكتور مطلق الجاسر والكاتبة دلع المفتي في الكويت، فتظن أن الأمر خاص بالكويت، لتتفاجأ بجدل يدخله «سلفي تقليدي» صادق، وسلفي «براغماتي» يحمل الجنسية السويدية ويقيم في بريطانيا، مع وفاء الرشيد، التي كتبت مقالا بعنوان «الدين ليس سياسة». وملاحظتي الأولى تشمل الجميع، عندما أشاروا إلى «نظرية الإمامة في الفقه الشيعي»، لنوضح أن حتى الشيعة تجاوزوا البعد الميتافيزيقي في نظريتهم، واستبدلوا معنى أكثر واقعية بذلك، وهو «نظرية الحكم في الفقه الشيعي»، التي أوضح الشيخ الشيعي محسن كديفر، في كتابه بالعنوان نفسه، أنها تتجاوز «تسع نظريات»، وهذا يدل على وعي شيعي بمأزق «الدين والدولة» في العصر الحديث، خصوصا مع تجربتهم في «ولاية الفقيه» كإحدى النظريات التي تم فرضها بالقوة. وخيبة ظني هي في أن كثيرا من شيوخ السنة ما زالوا على مأزق الخلافة «الأعجمية السلجوقية!؟!!»، فيستشهدون بموقف العلماء من كتاب علي عبدالرازق قبل ما يقارب مائة سنة بعد سقوط «الاستعمار التركي» المسمى «خلافة»، أي أنهم حتى الآن لم يتقدموا في تفكيرهم قيد أنملة، على الرغم من كل ما وصلت إليه الدولة الوطنية الحديثة من استقلال وتقدم وحضارة. ولهذا فأنا أخرج من كأنه «يحمل جنسية سويدية ومقيم في بريطانيا» من النقاش، لأني «أحترم عقلي وعقل القراء»، لكن لعل هذا المقال ينفعه، فلا ترتطم إطروحاته بواجباته كمواطن سويدي أو بواجباته كمقيم في بريطانيا، أما ما يخص «السلفي التقليدي» الصادق، فكل مقالاته مهمة لشريحة لا بأس بها من «الناس» الذين يفهمون فهمه الديني نفسه، ومنهم بعض أهلي من «كبار السن»، وليلاحظ القارئ استخدامي كلمة «الناس» متعمدا، لأن من يفهم مثل فهمه لست متأكدا من إدراكه معنى كلمة «مواطن» التي ظهرت مع ظهور الدولة الحديثة، فلو استوعب معناها تماما فسيكون بين أمرين: الأول «إما التكيف النفسي عبر تخريجات فقهية لا تقدم ولا تؤخر في واقع الدولة الحديثة شيء، وهذه التخريجات هي نسق التكيف نفسه، مع تحريم ثم تحليل تعليم المرأة، والإذاعة.. إلخ من قضايا». وأما الثاني «الخروج على الدولة بمعنى داعشي»، لأن «السلفي التقليدي» الصادق قد يحرجه الأصدق منه، ليخرج لنا جهيمان جديد، ومعه المهدي الهاشمي!؟!!، أو ليخرج الأصدق منه أيضا فلا يقبل التأويل في حديث «الأئمة من قريش»، ليرى القرشية في الخليفة البغدادي (زعيم دولة الإسلام في الشام والعراق)، وكل هذا أوضحته وفاء الرشيد ضمنا بتساؤلها: ما الغرض من الدين؟ هل هو إقامة الدول وشن الحروب أم هو الهداية والنجاة في الآخرة؟!.

بالنسبة لرد «الرشيد» على «السلفي التقليدي» الصادق، ونقولاتها من كتب «السلفية» وعلمائها، فأنا لا أحبذ هذه الطريقة أبدا، والسبب بسيط، لأني مواطن سعودي يكتب في صحيفة سعودية، ونقاشي بهذه الطريقة سيشعر مواطنين في مناطق كثيرة في المملكة بأنهم ليسوا معنيين بمعنى الولاء للدولة، فهذا النقاش من أصله بالنسبة لشريحة كبيرة من المواطنين السعوديين من «لزوم ما لا يلزم»، فهل يطعن في ولاء وفاء الرشيد لدولتها أنها خالفت «السلفي التقليدي» في فهمه؟، فالتخريجات التي استغرقتها ثلاثة مقالات ليست سوى تخريجات سلفية مذهبية ضيقة، لا يمكن تقديمها كمسوغات للحصول على الاعتراف الدولي لعضوية «هيئة الأمم المتحدة»، عدا جنودنا على الجبهة الجنوبية من كل المذاهب والمناطق، ولهذا فإن فهمي معنى «مواطن» يحتم عليّ أن أوضح للقارئ السعودي، من غير «المدرسة الحنبلية»، أن ما بقي من المقال سأحاول فيه طرح الإشكال وفق معطيات قد توجد لدى جميع المذاهب، وفق دلالات مشتركة، ولا يختص بها مواطن حنبلي أو مواطن شافعي أو صوفي أو شيعي، وإن فشلت فليعلم المواطنون من كل المذاهب أنه نقاش يخص فئة من «السلفيين»، يحاولون معالجة تساؤلات داخل مدرستهم السلفية من خلال مناقشة قضاياهم وفق تقاليدهم الفقهية التي لا تعني أحدا سواهم، ولا تنتقص من ولاء ومواطنة من خالفهم. وعليه، فإن أول ملاحظة تتكرر في كل النقاشات التي تسمعها للتيارات الإسلامية - بكل أطيافها - تعمد الخلط بين «الدين» و«الشريعة»، جاعلين «الشريعة» بمعنى واحد يتساوى تماما مع «الدين»، على الرغم من أن «الدين» معتقد روحي «مطلق»، بينما «الشريعة» حكم دنيوي «نسبي»، يتغير بتغير الزمان والمكان والعادات والأحوال والنيات والأشخاص، فإذا بدأت المناظرة بين «الإسلامي» و«المسلم»، رأيت الإسلامي يقفز من واقع المسلم «المتغير» إلى الدين «الثابت»، فإذا سلم له المسلم بذلك، عاد ورجع عليه بأفكاره، ليجعل الدين الثابت والشريعة المتغيرة في حديثه وإسقاطاته بمعنى واحد.

الدين «ضمير فردي» والشريعة «اجتهادات تحاول حكم هذا الضمير باسم الدين»، ولهذا بالإمكان «إقامة الدين» في كل بلاد العالم، ومنها بريطانيا التي يقيم فيها السلفي البراغماتي دون الحاجة لإقامة «الشريعة»، فمثلا يوجد قرابة ستة عشر مليون مسلم في الاتحاد الأوروبي، عاش معظمهم وولد في أوروبا ومات فيها، ولم يلزمه سوى «إقامة الدين»، كي يكون مسلما، بينما «إقامة الشريعة» لا تعنيه، ولا يطعن ذلك في دينه بإجماع العقلاء من المسلمين، ومثلهم مسلمو الهند والصين وروسيا وأمريكا والبرازيل والأرجنتين.. إلخ، بل إن وجود بضعة آلاف من المسلمين كجنود في الجيش الأمريكي أو الروسي لا ينفي عنهم «إقامة الدين»، بعكس ما لو تشربوا أيديولوجيا الإسلاميين في «إقامة الشريعة»، وما يستتبع ذلك من إشكالات تستنبت «داعش» كالفطر في كل مكان.

ولشرح الفرق، سنرجع لحدث مهم يشكل أهمية تاريخية توضح الفرق بين «الدين» كحالة فردية لا علاقة لها بالسياسة، بل إن أول من حاول ربطها بالسياسة هم «الخوارج»، ونتج عن ذلك الصراع التاريخي الطويل الذي أدى إلى النتيجة والمعنى المتداول في كتب الفقهاء، المنتمي للقرون الوسطى، والذي تخفيه الأحزاب الإسلامية ما دامت مغلوبة، ولا تتطرق إليه إلا إذا وصلوا لسدة الحكم، فيما ورد عن صحيح مسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». ولهذا، ففي فترات التاريخ العربي لم يستخدم التكفير سلاحا كما استخدمه «الخوارج»، عبر الإعلاء من شأن «إقامة الشريعة» وفق فهم «الخوارج» الذي يخالف فهم الأمويين والعباسيين. ولما في هذا التاريخ الطويل من تكفير وقتل، نتج في كتب التراث ما يسمونه «فقه الغلبة»، تلطيفا لواقع «فقه سفك الدم»، على الرغم من أن جميع المتقاتلين على اختلاف مذاهبهم ما زالوا على «إقامة الدين»، فقبلتهم واحدة ونبيهم واحد، لكنهم وفق «إقامة الشريعة» يستبيحون دماء بعضهم، حتى يتحقق «فقه الغلبة» الذي تجاوزته الدولة الحديثة في القرن الحادي والعشرين.

الغريب أن الحديث عن «رجال الدين» قبل ما يزيد على سبعة قرون كان حديثا ذا طبيعة علمانية بشكل طبيعي على لسان بعض رجال الدين أنفسهم، ولهذا نجد فصلا من فصول كتاب المقدمة لـ«ابن خلدون»، وهو أحد قضاة مصر في القرن السابع الهجري، عنوانه «في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها»، ويفسر ذلك بأن «العلماء» ينطلقون من الذات إلى الواقع، لفرض الحكم الموجود في الذهن عبر نصوص لا علاقة لها بالواقع المستجد، فلا يتجاوز الأمر عندهم سوى القياس والمقاربة مع ما هو في الذهن، ومحاولة إسقاطه على الواقع، بينما السياسة تقتضي العكس، وهو الانطلاق من الواقع إلى الذات، فالواقع هو «سيد الموقف»، وليس المسبقات الذهنية لمحفوظات فقهية، فالواقع مقدم عند السياسي، للحصول على الرأي الصحيح، وهنا يظهر الفهم «المدني» عند ابن خلدون، وأثر ذلك في نظرته للأمور لمجرد أنه أشتغل بأمر العمران وسؤال الحضارة، وربما سبقه أبو نصر الفارابي، من رجالات القرن الثالث الهجري، بالإشارة في كتابه «إحصاء العلوم» إلى مصطلح «العلم المدني» مع مراعاة تواضع مفاهيمهما مقارنة بما وصلت إليه الإنسانية في معنى «الدولة» و«المواطنة» في زمننا هذا.

«دولة الإسلام في العراق والشام/‏داعش» طرحت نموذجها العاري لمعنى «الإسلام الأصولي»، الذي لا يكون دون «إقامة الشريعة»، والذي لا علاقة له ولا نسب في «الإسلام الأصيل» الذي يكفيه من المسلم «إقامة الدين»، وعليه فلو افترضنا جدلا أن «الإسلاميين» رافقوا «المسلمين» في هجرتهم إلى الحبشة، لاضطر «النجاشي» إلى طردهم أجمعين بسبب ما سيفتعله الإسلاميون من مشكلات داخل دولة «النجاشي»، بينما المسلمون حضروا مكرمين، وعاشوا مع «النجاشي» معززين دون أن ينازعهم أمرهم في «إقامة الدين».

أخيرا.. أي مناظرة بين «إسلامي» و«مسلم» يجب أن تنطلق بداية من معرفة الفرق بين «الدين» و«الشريعة»، بدلا من التعمية التي يمارسها الإسلاميون بين معنى «الدين» و«الشريعة»، ليستخفوا عوام المسلمين، ليصبحوا مثلهم إسلاميين، فـ«إقامة الدين» لا تقتضي «إقامة الشريعة»، وإلا فقد بطل إسلام ما يزيد على مليار مسلم ينتمون لأوطانهم (غير المسلمة) في قارات العالم الخمس، ولا يقول بهذا سوى من يعيش «فصاما تاريخيا» تجاه الدين والحياة.

ومما يثير المتأمل أن «إقامة الدين» حكمها بين الله وضمير الفرد، وتقتضي «العدل المطلق في الآخرة»، ولا يلزم من «إقامة الشريعة» سوى العدل البشري «النسبي»، ولهذا أوضح الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام، في الحديث المشهور عندما يصف نفسه كقائم بالشريعة فيقول: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما قطعت له قطعة من النار»، وهنا يوضح النبي الكريم أن «إقامة الشريعة» بين الناس لا يلزم منها الوصول إلى «الحق المطلق»، بل هو «حق نسبي» مرتبط بالبشر واجتهاداتهم التي تصيب وتخطئ، ولكن «إقامة الدين» مرتبطة بالله الذي يحفظ للمرء حقه في الآخرة بالمعنى «المطلق» حتى ولو لم ينل المرء حقه بالشريعة «النسبية»، ولهذا احتاطت الدولة الحديثة بنظام المرافعات الذي يعطي المتقاضين حق «الاعتراض على حكم القاضي»، والنقض لجهة تقاضي أعلى، لرفع مستوى «العدالة النسبية»، أما «العدل المطلق»، فلا يكون إلا لله في الآخرة.

أخطر ما يمكن أن يقع على المسلمين في «إقامة الدين» هو الهوس في عقول الإسلاميين بـ«إقامة الشريعة»، فالإسلام ليس «دين ودولة»، بل «الإسلام دين والمسلم من أي مذهب مواطن في الدولة». ولمن يريد معرفة الفرق بين «الدين» و«الشريعة»، فعليه مراجعة التاريخ القريب منذ أحداث 11 سبتمبر وصولا لـ«داعش»، وما وقع على «المسلمين» من تضييق في «إقامة الدين كشأن شخصي» بسبب «إسلاميين» تسربلوا السياسة وفق عقل القرون الوسطى، فأتوا بالعجائب في «إقامة الشريعة» من خلال السبايا وأسواق النخاسة، وعندما رأوا العالم وقد تحالف عليهم، كما تحالف على النازية من قبل، تلونوا وتراجعوا، فارتد الإسلاميون ظاهريا عن فكر «داعش»، واتجهوا إلى مناظرة المسلمين على أمل جولة أخرى، متناسين أنه لا يمكن عبور نهر الحضارة مرتين، أما عبور نهر الدم فلا توجد أصولية/‏عقائدية/‏دوغمائية في أي ديانة في العالم تستنكف من عبوره مرات ومرات، ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

أخيرا.. أعتذر عن متابعة الجدل «المذهبي الضيق» الذي لا علاقة له بمفاهيم «التنمية المستدامة» في الوطن، ولا «جودة الحياة» للمواطن، لكنه قطعا أصبح «جدلا مذهبيا ضيقا» عندما اعترض المعترضون على مقال لمواطنة ترى أن «الدين» ليس «فن الممكن»، بينما «الإسلاميون»، كما يظهر في ردودهم وطبيعة حياتهم، يرون «الدين» هو «فن الممكنات» في كل الاتجاهات المتناقضة، كأن تحصل على «جنسية سويدية وتقيم في بريطانيا وتعيش سلفيا مهتما بالإمامة وتشتم العلمانية!!».