تظل فترة السنوات الأربع الحرجة من التاريخ السياسي الخليجي، والممتدة من صيف 1990، وحتى صيف 1994، هي الفترة التي عرت حقيقة جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية وذيولها النكدة في الخليج، وعلى الرغم من الجهود الأمنية المخلصة التي سعت لحماية الدولة والمجتمع من شرور هذه الجماعة الإرهابية وأخطارها، فإنها ظلت تقاوم كل عمليات تحجيمها والقضاء على شرها، بطرق تقليدية وأخرى غير تقليدية، وكلما سد عليها منفذ، فتحت عشرات المنافذ البديلة، بسبب تغلغلها العميق في المجتمع، وتمكنها من النفاذ الحر إلى جميع شرائح المجتمع بلا استثناء، وذلك عبر تمكنها من «إدارة الظل» في كل ما يتعلق بشؤون الدين والدعوة والإرشاد، ثم قفزها على الفتوى، وتسيير الخطاب الديني لاحقا، وعبر تمكنها من «إدارة الظل» في كل شؤون العملية التعليمية بمنهجيها الظاهر والخفي، وبمناشطها الصفية واللاصفية، بعد فترة إعداد وكمون لعشر سنوات على الأقل فيما بين 1965، وحتى 1975، وبعدها بدأ يرتفع الرتم الأدائي لأذناب الجماعة وخلاياها وأتباعها، حتى سيطرت على كل شيء خلال سنوات خمس فقط، مما يعني وصول التطرف الصحوي إلى كل فرد سعودي من الجنسين، خلال الأربعين سنة الماضية.

وبعدما احتدت شراسة الصحوة، واحتدمت سيطرتها على عقلية المجتمع في عام 1992، وما بعدها، وجاوزت حد العقل والمنطق حينما حاولت الإملاء على الدولة، ما تأخذ وما تدع في سياستها، ودبلوماسيتها، وإعلامها، واقتصادها، وجيشها...إلخ، وزاولت العمل القذر المتمثل في تأليب المواطن على وطنه، وعلى قيادته، بدأت الجهات الأمنية باتخاذ حزمة إجراءات أمنية لوأد فتنة التطرف، وعلى الرغم من ذلك ظلت جذوة الصحوة مشتعلة في عمق المجتمع، واستجاب المجتمع مرة أخرى لتحورات «فيروس الصحوة»، فبعد أن كانت المحاضن التربوية للصحوة هي حلق تحفيظ القرآن الكريم، والمكتبات، وجماعات التوعية الإسلامية، أو جمعيات الثقافة الإسلامية في التعليم العام، والجوالة في التعليم العالي، وغيرها، تحولت تلك المحاضن إلى طريقة المجموعات الشبابية التي لا ينظمها عمل رسمي معين، لتختفي عن العين، ولا ينتظمها في الظاهر أي عمل تنظيمي حزبي، وأعادت نفسها مرة أخرى عبر المهرجانات والتدريب والأعمال الخيرية والإغاثية، ثم اقتحمت كل مجالات الإنترنت الممكنة، وبعدها الإعلام الجديد، وبل وجددت نفسها بالعمل التطوعي عبر جمعيات وأوقاف ولجان أهلية، بدعم فئة ليست قليلة من المجتمع، وكأنه كلما اندثرت أعادها جذعة، وهذا كما ذكرنا بسبب تغلل هذا الفكر المتطرف في شرائح معينة في المجتمع من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب تراخي الكثير من أفراد المجتمع في مواجهة تحورات الصحوة وتقولباتها، وعلى الرغم من الوضوح والمباشرة في حديث صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد- أيده الله- لمجلة التايم الأمريكية، في أبريل عام 2018، حينما وصف بأن: «أتباع السرورية هم الأكثر تطرفاً في الشرق الأوسط، وهم أعلى درجة من جماعة الإخوان المسلمين المصنفة إرهابية»، عضد هذا الوصف الفعل الحكومي الأمني الجاد الكفيل بالقضاء على فتن جماعات اغتصاب السياسة بالدين، ولكن يظل دورا مهما مناطا بالمجتمع وأفراده، والذي ما زال ينطلق منه المتطرفون الصحويون كل مرة في غزوات هدفها إعادة العربة أمام الخيول من جديد، وعرقلة جهود الدولة في تطوير المجتمع، ونقله إلى مستوى جديد من التحضر والرفاه يستحقه المواطن السعودي.

يجب ألا يغيب على المجتمع السعودي الكريم أن السياسة والحكم كانتا دوما هما الهدف الأصيل «لجماعات» الإخوان المسلمين مهما تعددت مسمياتها واختلفت مناهجها، ولذلك يحشدون أفراد المجتمع تحت رايتهم من أجل الوصول إلى الدولة/‏الخلافة، بأي طريقة كانت، ودوما كانت المجتمعات المتأثر والمؤثر في مسيرة هذه الجماعات، ونموها ونمائها، ولا يمكن بحال من الأحوال القضاء المبرم على الصحوة وتطرفها إلا بتكاتف كافة أفراد المجتمع، بتعزيز جهود الدولة الأمنية لاقتلاع جذور التطرف من المجتمع، وإعادة الفعل الديني والاستجابة للخطاب الديني المتطرف إلى المسار الصحيح، مسار ما قبل 1979، مسار التسامح والوسطية الدينية، التي تقي من شرور التطرف والانحلال.

علينا كأفراد في مجتمع متطلع للحرية المنضبطة، أن نعي أننا نستخدم كمطايا ونحن لا نشعر، لإعادة تلميع صورة الخطاب الصحوي، خصوصاً ونحن نرى بأم أعيننا، كيف يحاولون هدم صورة: أن مجتمعنا مجتمع متدين ومحافظ، في نفوس أفراده، بسبب القرارات الحكيمة التي تسابق الزمن لإعادة الحياة لنا.

ولعل من أروع ما قرأت، مؤخراً، في هذا الصدد مقال للباحث المتميز عبد الله بن بجاد العتيبي، في صحيفة «الشرق الأوسط» (عدد: 15524)، بعنوان: («إخوان» السعودية... المقولات الجديدة)، ولو كان الأمر بيدي لأطلعت عليه كل سعودي وسعودية، حيث ذكر خمس مقولات يروج لها الخطاب الصحوي المتطرف الخفي، في سعودية اليوم، حيث ينشط هذا الخطاب في (نشر هذه المقولات، وترددها من خلفها فئات من المجتمع بعضها في موقع المسؤولية وبعضها في موقع التأثير، وهما في موقع الجهل وقلة المعرفة، بعضها مقتنع بترهات الإخوان، وبعضها ينتمي لفئة يمكن تسميتها: مطايا الإخوان).

وأسرد هنا بتصرف يسير بعض أفكار هذا المقال الرائع، فيقول عبد الله: «هذه الجماعات تستطيع بكل بساطة الركوب على الخطط الإصلاحية والتغلغل في بناها النظرية والتطبيقية، والحصول على المناصب المؤثرة في مثل هذه الرؤى الكبرى...»، ويقول في موضع آخر: «المخطط الإخواني يتحرك بتنظيم محكم، وقرارات يتم توزيعها من القمة إلى القاعدة، وبثها بوسائل وأساليب لا تستطيع الدولة اكتشافها بسهولة ويسر... وهم موجودون خطابا وتنظيمات ورموزا في كل مكان، فالعهد قريب والفاعلون معروفون وهم يحنون رؤوسهم للعاصفة لا أقل ولا أكثر»، ويقول: «الجماعات المؤدلجة لا تنتهي بقرار ولا تختفي بتصنيف سياسي وقانوني... ووضع برامج ومؤسسات لمتابعة هذه الجماعات وخطاباتها ورموزها مع التركيز على بث «الهوية الوطنية» و«التاريخ» و«الإنجازات» بشواهدها وتفاصيلها هو ما يرسخ المبادئ ويعزز اللحمة الوطنية ويحقق المستحيل».

أخيراً، المجتمع أعلى شأن الصحوة، ومكنها ويقوم عليه الشق الأهم والأكبر بالقضاء المبرم عليها وإزالتها من عقليته وثقافته، هذا إن كنا نريد التعافي من التطرف، والفتن التي تتخلق الآن في أقبية الظلام الصحوي.