ماذا تعرفون عن طلال باغر، ملحن وموسيقار وصنو الفن والفنانين. نعم، ولكن ليس هو كذلك وحسب.. منذ خمسين عاماً تقريباً تعرفت على الصديق طلال باغر، كنت أيامها أسكن في النزلة اليمانية، بجوار صديق ذهب إلى رحمة الله، كما يذهب الطيبون بين حين وآخر، وكان ذلك الصديق هو فيصل بخاري، والذي كنا نجتمع شبه يوميا في منزله، الذي بجوار محطة الهلال، وكان ذا روح فكهة وبه نشامة الرجال، وظرف الروح الذي يجعلك تدمن عشرته، وكان يعزف على العود بما قسم، وأخونا طلال الشاب في ذلك الحين يسكن في نفس المنطقة، يطل علينا بين الحين والآخر، فيجلسان هو وفيصل يدندنان على العود، من أغاني طلال مداح ومحمد عبده، أيام ما كان الطرب طربا، والدندنة دندنة تشغف القلوب وتشنف الآذان.

عندما تومئ لها العينان بأن الطرب قد اقترب، فتتلهف وكأنها تقول لو علمت الدار بمن زارها فرحت.. واستبشرت ثم باست موضع القدم.

ومن أول مداعبة على الأوتار، ونار يا حبيبي نار، تجدنا ومعنا نفر أو نفران، أخوه سمير على الطبلة «الإيقاع»، والآخر يساهم بالصفقة، ثم نكون كلنا كورس لنرد على طلال أو فيصل، ثم ينفض السامر بعد أن نكون قد ارتوينا طرباً، وقضينا وقتنا إمتاعا وفناً وأحاديث وقفشات ونكاتا.

وبحكم إني إنسان يهوى الفن ويتفاعل معه، ولو على قدرٍ، كنت أسمع وأرى في دندنات الأخ طلال شيئا غير، هناك جديد، هناك مشروع فنان لم يعلن عنه بعد، فعندما يداعب العود يفاجئني بأنغام لم أسمعها من قبل، وإن كان لا يكملها، مجرد ومضات عابرة.

ومضت الحياة، واستمرت اللقاءات، حتى ذات يوم قال أبشرك، لقد غنى لي أبو الطرب طلال أغنيتين، منها «غريب حبك»، وأغنية «عوافي»، وفعلا أسمعني الأغنيتين، ومن كان يحلم أيامها أن يلحن لطلال مداح، وكانت هاتان الأغنيتان إعلان بزوغ نجم ملحن له مستقبل كبير.

ومرت الأيام وتفرقنا كلٌ في طريق، نتيجة تنقلاتي العملية، ولكن كنا نلتقي بين حين وآخر، حتى سلمته ذات يوم أغنية خطوة عزيزة، فلحنها لحناً رائعاً، وغناها طلال بكل إبداع، ثم جاءت مسيرة الأغاني الوطنية، فعملنا معا أكثر من ثلاثين عملا غنائيا، كان لمحمد عبده نصيب الأسد منها.

ثم واصلنا المشوار إلى خارج الحدود، فغنت سميرة سعيد غريبة دي الجية، وحبيب وشفت القمر ضاحك لي، ولطيفة شقاوي، ثم مع عبادي وعبدالله رشاد ومحمد عمر وعبدالمجيد، وغيرهم.

كان قافلة ألحان كامنة ومتنقلة، أقول يا طلال عندي كلام، يقول تعال وعلي فنجان شاي نكون أنجزنا الأغنية، كان فنانا متنوعا لكل المقامات، لا يقف أي نص أمامه شامخا، فكان يذلل كل قصيدة وكأنه حاكم الفن، لا يرد له أمر، لم أسمع مثله كملحن، عملت مع البعض منهم مبدعين، ولكن كان اللحن يولد في كثير من الأحيان بعمليات قيصرية، أما طلال فلحنه في كمه كما يقولون، ما في حيص بيص، حار يا فول.

نعم إن الحظوظ أحيانا تخون المبدعين، وإلا لحظي طلال بأفضل التقدير، من رواد الفن ورعاته، هناك أعمال بيننا لا تزال حبيسة، قد يأتي يوم وأعمل على إظهارها، شيء بسيط أقدمه لفنان عملاق رحل، ولكن تبقي ذكراه خالدة، ما دام للفن الأصيل بقية، كما أن هناك حكايات ومواقف مع هذا الرجل النبيل، ولكن المجال ربما لا يسمح بذكر كل شيء.

لم أرد أن يكون هذا تأبيناً حزيناً، فقد كانت روح طلال دائما مشرقة فياضة مرحة، وفي أشد المعاناة ترى ضحكته تنوء بها تفاصيل وجهه، التي ظلت بريئة كما الأطفال، رغم السنين الطويلة التي مضت، راحت ما كان منها رغدا أو كان كفافا.

بوفاة الصديق الصدوق طلال باغر، فقد الفن أحد أركانه، وسيترك فراغا كبيرا، رغم أن الساحة الفنية في الآونة الأخيرة، اكتظت بالملحنين الجدد، ولكن يظل طلال غير.

إني أهيب بالجهة المعنية بالفن، وبالذات وزارة الثقافة، أن تقوم بتكريم هذا الفنان، وأرجو ألا يكون ذلك بدرع يتسلمها ذووه، فهذا تكريم عفي عليه الدهر، ولكن ربما بمنصة باسمه، أو قاعة أو جائزة، كما أن توقعاتي قد تعلو فأتمني لو وجد عليه دين أو التزامات، لم يستطع أن يوفها ولم يبح بها أن تسدد، فهو من الناس الذين من التعفف تحسبهم أغنياء.

لقد أثرى الفنان المرحوم طلال باغر، الساحة الفنية بمئات الأعمال الفنية، فما قدم وطنيا من ألحان ربما يقارب المائة عمل، لقد كان واجهة فنية راقية، إن في الداخل أو خارج الوطن.

بوفاة الأخ طلال باغر، فقدت صديقا حميما، وأخاً عزيزاً. يشهد الله خلال خمسين عاما لم أر عليه شائبة، ولم أسمع منه إلا كل خير، كان متسامحاً وفياً بقلب أبيض كإشراقة يوم جميل. رحمه الله وأدخله فسيح جناته.

وألهم الله أم غسان رفيقة مشوار حياته، وأبناءها وبناتها وذويه ومحبيه الصبر.