مرة أخرى إنجازات المملكة إلى مصالح المسلمين، ولجأت إلى الخيار الأصعب، وأكدت حرصها التام على أمن الحجاج وسلامتهم، وحفظ أرواح المسلمين في أنحاء الأرض كافة، وتقديمها لهذا الهدف على ما سواه، عندما أعلنت اقتصار الحج هذا العام على المواطنين والمقيمين داخل المملكة، بأعداد لا تتجاوز 60 ألفا، وذلك بسبب الظروف التي يعيشها العالم في الوقت الحالي جراء تفشي جائحة كورونا (كوفيد - 19)، وما تقتضيه إجراءات مكافحة المرض من تباعد اجتماعي بين الناس، وهو ما لا يمكن تحقيقه أثناء الحج الذي تتطلب شعائره وجود أعداد كبيرة من الناس، في مكان محدود المساحة في التوقيت نفسه، وهو ما يهدد بانتقال العدوى بين تلك الحشود الضخمة، لا سيما أن المرض يعرف بسهولة وسرعة انتشاره.

ومع أن كثيرين توقعوا إقامة موسم الحج بصورة طبيعية مع التشديد في الالتزام بالتعليمات الصحية، وذلك بسبب التقدم الكبير والنجاحات المتلاحقة التي تحققها المملكة في تصديها للفيروس الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، إلا أن الحكمة استلزمت التريث، خوفا من تزايد العدوى ووصولها إلى معدلات تصعب السيطرة عليها مستقبلا، لا سيما مع ظهور تحورات جديدة للمرض.

حتى مع اقتصار الحج على عدد 60 ألفا فقط، فقد تم التشديد على أن تكون الحالة الصحية للراغبين في أداء المناسك خالية من الأمراض المزمنة، وأن تكون ضمن الفئات العمرية من 18 إلى 65 عاماً، مع اشتراط الحصول على اللقاح، وفق الضوابط والآليات المتبعة في المملكة، رغبة في الوصول إلى أعلى معدلات الأمان.

هذه الرؤية الواضحة للقيادة السعودية تدخل ضمن مقاصد الشريعة الإسلامية التي تنادي بحفظ الضرورات الخمس (الدين والنفس والعقل والعرض والمال)، وعدم تعريض أرواح المسلمين للخطر، لأنه إذا انتقل المرض لأي من ضيوف الرحمن - لا قدر الله - فإنه سينتقل حتما إلى بقية الحجيج، إضافة إلى أن حامل الفيروس سوف يعود به إلى وطنه ويعرض حياة عائلته وأقاربه ومواطنيه إلى خطر شديد. لذلك لم تتوان حكومة المملكة عن اتخاذ القرار الصحيح الذي يكشف عن سعة الأفق، وصواب الرؤية وصحة التقدير، وهو ما دفع العديد من الجهات الدولية ذات الصلة مثل الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية إلى الإشادة بالقرار السعودي.

خلال العام الماضي وامتدادا للحرص على صيانة أرواح المسلمين، تم اقتصار الحج على أعداد محدودة جدا من المواطنين والمقيمين داخل المملكة لأن المرض كان في ذروة انتشاره، وكان بإمكان المملكة تعليق الحج في ذلك الموسم، لاسيما أن كثيرا من الدول الإسلامية الشقيقة طالبت بذلك. لكن المملكة التي تتشرف بخدمة الحجاج وعمارة بيت الله الحرام رأت الاستمرار في أداء هذا الدور العظيم وإقامة الموسم بأعداد محدودة، وها هي اليوم تقرر الاستمرار في ذات المسار.

فالنظرة التي تنطلق منها المملكة في تعاطيها مع القضايا الإسلامية تقوم على القاعدة الشرعية (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح). حتى وإن كانت نسبة حدوث الخطر وتزايد انتشار المرض ضعيفة مع التجهيزات المتطورة التي تتوفر ولله الحمد في بلادنا، إلا أن القيادة الرشيدة رأت عدم المخاطرة، صيانة لدماء المسلمين وحفاظا على حياتهم، وهذه نظرة تحمل أعظم معاني الإنسانية.

ولتأكيد صحة ما ذهبت إليه تكفي الإشارة إلى أن السلطات السعودية لم تكتف خلال الموسم الماضي بمجرد تقليص عدد الحجاج، بل فرضت إجراءات وقائية في غاية الدقة، ووضعت خططا احترازية صارمة تم تنفيذها بمنتهى الحزم، واستعانت بأعداد ضخمة من الأطقم الطبية وقوات الأمن والأجهزة المساندة لضمان تقيد الجميع بالتوجيهات، وهو ما تطلب إنفاق ميزانية مهولة، لكن المملكة التي اعتادت تسخير كل مواردها ومقدراتها لإنجاح مواسم الحج السابقة لم تأبه لذلك واهتمت فقط بتوفير أعلى درجات العناية والرعاية لضيوف الرحمن، حيث تبارى أبناؤها في إكرامهم وتسابقوا على خدمتهم.

وللمفارقة فإن الجهود التي بذلت خلال الموسم الماضي الذي شهد أداء أعداد محدودة لفريضة الحج تطلب جهودا أكبر من التي تبذل عادة في المواسم التي سبقته، بسبب خصوصية الظرف، والخوف من انتشار الفيروس الفتاك، حيث انتشر رجال الأمن في كل الطرق، ورابط الأطباء والممرضون وسائر الأطقم الطبية وكانوا على أهبة الاستعداد لأي طارئ، حتى انتهى الموسم وعاد الحجيج إلى بلادهم سالمين غانمين، نفوسهم عامرة تلهج بحمد الله والثناء عليه، وأفئدتهم مليئة بمشاعر الود لقادة المملكة وشعبها، الذين سهروا على راحتهم وبذلوا الغالي والنفيس لضمان سلامتهم وأمنهم.

وصفة النجاح الرئيسة في إنجاح مواسم الحج تعتمد على الطريقة التي تتبعها بلادنا في إدارة تلك الحشود الهائلة التي تتجاوز عدة ملايين من الناس من مختلف أنحاء العالم، بلهجات مختلفة وثقافات متباينة، تتحرك في وقت واحد تجاه ذات الأماكن ذات الحيز الجغرافي المحدود، ومع ذلك لا ينقصهم الطعام ولا الشراب، وتتوفر لهم الخدمات كافة، والأمن ووسائل الرعاية الصحية، ليعودوا في نهاية الأمر إلى بلدانهم، هي تجربة تستحق أن يتم تدريسها لأنها أشبه ما تكون بالمعجزة.

ختاما ينبغي التأكيد على أن ما تمتلكه بلادنا بحمد الله من خبرات تراكمية كبيرة، وإمكانات طبية كبيرة، ومرافق علاجية متطورة، وقدرة على مواجهة التطورات والمتغيرات كفيلة بإذن الله بإخراج موسم الحج الاستثنائي بأفضل صورة. وعندما يعود ضيوف الرحمن في الأعوام المقبلة بعد انقشاع الأزمة سيجدون المزيد من التسهيلات والإضافات التي تعينهم على أداء مناسكهم بيسر وسهولة، فهذه المهمة المقدسة هدف رئيس لأبناء هذه البلاد الذين يتشرفون بخدمة ضيوف بيت الله العتيق، ويرفعون رؤوسهم فخرا واعتزازا بهذه المهمة التي اختصهم بها الله من بين جميع خلقه.