منذ أن بدأنا نفهم حكايات أمهاتنا، ونسمع روايات آبائنا، ونتعلم حروف القراءة، رافقتنا آثار نكسة حزيران عام 1967، وكيف أن الجيوش العربية انهزمت أمام إسرائيل في ستة أيام! فتعززت في نفوسنا ثقافة الهزيمة والانكسار، وانكسر ظهر الأمة ولم تقم لها قائمة منذ ذلك الوقت، حتى عادت تأكل نفسها بالصراع بين بلدانها.

صرنا يافعين، وملامح الخوف مرسومة على وجهنا، وحسرات الانكسار تسكن قلوبنا، ونفوسنا راضية بما نحن فيه، ما دامت النيران لم تحرق ثيابنا، ولم نكن نتخيل يوما، أننا سنصاب بنكسة أخرى، لكن حزيران عام 2014 كان يحمل لنا نكبة أخرى، وهذه المرة النار دخلت إلى بيتنا، وكادت تحرق الأخضر واليابس، وتجعل أبناء الوطن بين قتيل ومشرد وسبية، وارتفعت الرايات السود على أطراف بغداد، بعد أن اجتاحت غربان الشر ثلث مساحة العراق.

كانت الصورة قاتمة والنفوس منكسرة، والمؤامرة تم الإعداد لها بعناية متقنة، من هروب قادة داعش من سجن أبو غريب، ونقل أسلحة الجيش العراقي الحديثة إلى مناطق ساخنة، ثم إيداع 500 مليار دينار إلى مصارف الموصل، تبعها الانكسار الكبير للقطعات العسكرية، ثم تلت ذلك الصدمة بحصول الجريمة الكبرى، بإعدام طلاب مدرسة سبايكر.

غابت الحلول عند أصحاب القرار، بعد أن أيقنوا أن الغول قادم لابتلاعهم، وصاروا يعدون الأيام والساعات، كي ترفع الأعلام السود فوق رؤوسهم -إن بقيت لهم رؤوس- بل إن بعضهم حزم حقائبه استعدادا للرحيل، فحجم المؤامرة كان كبيرا بفعل العوامل الخارجية، التي هيأت أسباب الفوضى، والانقسام الداخلي الذي كان على أشده، وغياب القيادة الواعية التي بإمكانها التعامل مع الأزمة وإدارة المعركة، والانكسار الشعبي الكبير بسبب الشرخ الكبير بين القاعدة ورأس الهرم.

لم يكن أحد يتخيل أنه في لحظة الانكسار الكبرى، سينفجر طوفان بشري يواجه الخطر الداهم بصدور عارية وأقدام حافية، لا يرهبون الموت إن وقع عليهم أم وقعوا عليه، بل يستأنسون به استئناس الرضيع بمحالب أمه، وكأن العنقاء قد ولدت من جديد، فتحول ذلك الانكسار التاريخي إلى فورة غضب وجمرة حماس، وراحت جحافل المتطوعين تغني أنشودة النصر، والأمهات تزغرد مع جثمان كل شهيد، والفرحة تملأ البيوت مع وصول كل جريح، وانقلبت الحسرة إلى فرحة، وما كاد يكتب من تاريخ أسود، صار تاريخا ناصع البياض.

كانت فتوى الجهاد الكفائي كـ«عصا موسى» التي أبطلت كيد السحرة، وغيرت مجريات المعادلة والخطط الخبيثة، فجعلت الملايين من الحشود البشرية تنطلق كالسيل الهادر، حملت السلاح وتكاتفت مع القوات الأمنية، لتحرر أرض العراق من دنس أعتى هجمة إرهابية، وتحول انتكاسة حزيران الثانية، إلى عيد كبير يحتفل به العراقيون، وهم يستذكرون انتصاراتهم وملحمتهم الكبرى، وهم سعداء بما بذلوه في سبيل وطنهم، وما استرخصوه من أرواح ودماء، من أجل شعبهم ومقدساتهم.

لقد أثبت العراقيون أنهم شعب حي، ينسم هواء الحرية وعبق الصمود، ولم تتمكن منه ثقافة الهزيمة وروح الانكسار، وأنه قادر على تحقيق المستحيل وصناعة تاريخ ناصع، متى ما توافرت له القيادة الحقيقة، ومتى ما امتلك الثقة بها.