القليل الذي أمكن فهمه من قمة بايدن - بوتين أنها اهتمت خصوصا بتحسين العلاقات الثنائية عبر معالجة مسألة القرصنة السايبيرية الروسية، والخلافات في شأن عسكرة القطب الشمالي، وتبادل السجناء. الكثير الذي لم يفهم بعد، ويستلزم وقتاً، يتعلق بمجمل القضايا الدولية، وهو إما بحث سريعاً وسطحياً أو لم يجر التطرق إليه في هذه المرحلة، وترك للمتابعة. أما ما يخص «الاستقرار الاستراتيجي» الدولي فاستحق إعلانا مشتركا لمنع نشوب حرب نووية. ومنذ سقوط الاتحاد السوفياتي لم يعد التوافق على «الحد من التسلح» عقبة كأداء بين الطرفين، إلا أنه لم يكن أبدا عنوانا للسلام، بل تحول معظم مواجهاتهما «حروباً بالوكالة»، إلى أن اصطدمت بعصب بالغ الحساسية، أوكرانيا، ما أعاد أشباح «الحرب الباردة» التي قال بايدن إنها «آخر ما يريده بوتين». لكن دراسات كثيرة رأت في الأعوام الأخيرة أن تصاعد الهجمات الإلكترونية الروسية في صدد أن يصبح نمطاً من «الحرب الباردة».

كان لقاء جنيف بين مخضرمين، الأكبر سناً هضم صعود الحقبة السوفياتية ونهايتها، والآخر عاش في تلك الحقبة ولا تزال مرارة أفولها وأحلام استعادة أمجادها المحرك الرئيسي لسياساته. أراد بايدن أن ينبه بوتين إلى وجوب ترشيد سلوكه، لأنه يسيء إلى روسيا «كدولة كبرى». وبرغم إنكار بوتين الهجمات الإلكترونية فإنه سجل الغضب الأمريكي منها والخشية من أثرها على البنى التحتية كإقرار بأنه حقق هدفا، وأن لديه نقطة قوة. لكن بايدن طلب أن تكون البنى التحتية «خطا أحمر» وإلا فـ«كيف ستكون الحال إذا ما انخرطت أمريكا في الأنشطة» التي تقوم بها روسيا. كان ذلك نموذجا «توضيحياً» للفكرة الأساسية التي أراد ترويجها: «نظام دولي قائم على قواعد»، وقيل في سياق شرحها إن «البديل نظام غابة وفوضى»، وقيل أيضا إن الاتحاد الأوروبي اختصر «خطوطه الحمر» لبوتين بأن «على روسيا إظهار احترامها للقانون الدولي والوفاء بالتزاماتها ومسؤولياتها الدولية».

ينطبق ذلك من وجهة نظر الأوروبيين على أوكرانيا التي انتزع بوتين منها شبه جزيرة القرم ووضع نصفها الشرقي في حال تمرد وانفصال، فسمم العلاقة مع الغرب الذي قابله بعقوبات اقتصادية قاسية. ومذاك أصبحت أوكرانيا قضية لا حل لها ولا أحد يستطيع التراجع عن موقفه منها، أما بوتين فمستعد للمساومة على تسوية لتقاسمها. كان ذلك في حساباته عندما قرر التدخل في سورية، ولكي يوسع إطار المساومة استبقى فيها إيران وجلب إليها تركيا وسهل لإسرائيل بناء مصالح فيها. غير أن الغرب تنازل له عن سورية، ولم يقدم له دعما يمكنه من التمتع بابتلاعها، كما لم يطلب منه تنازلات سورية مقابل تسوية في أوكرانيا. ما تسرب يفيد بأن الجانب الأمريكي طلب في جنيف أن تكف موسكو عن ابتزاز الغرب بتخييره بين إغلاق آخر معبر حدودي إنساني والقبول بمرور المساعدات الدولية للنازحين عبر النظام السوري، حتى لو استولى على معظمها. هذا مجرد اختبار يمكن أن يبنى عليه لاحقا.

كثيرة هي المسائل الدولية التي لم يأت الرئيسان الأمريكي والروسي على ذكرها علنا ولم يتسرب أنهما توقفا عندها خلال المحادثات. بدا أن قضيتي المعارض الروسي ألكسي نافالني وبيلاروسيا استهلكتا بعضا من وقت القمة في سياق تركيز بايدن وإدارته على مسألتي حقوق الإنسان والديمقراطية، وهو استبق القمة مع بوتين بثلاث قمم (الدول الـ7، حلف الأطلسي، والاتحاد الأوروبي) كانت «قيم الديمقراطية» شعارا محوريا فيها، كما لو أن دول الغرب ترد على مقولة بوتين عام 2019 إن «الديمقراطية عفى عليها الزمن». حينذاك كان الرئيس السابق دونالد ترمب بث النعرة الشعبوية المناقضة للديمقراطية في سياسات بعض الدول الغربية ومجتمعاتها، منخرطا في الترويج لـ«قيم الصفقات» التي خاض «حروبه الاقتصادية» بحثا عنها، ما أشعر زعيم الكرملين بأن الغرب يفقد قيمه التقليدية ويأفل فيما استطاع صعود روسيا والصين أن يفرض عالماً متعدد القطبية ومدافعاً عن «قيم» قائمة على القوة عسكريا أو تجاريا، وكأنها قيم جديدة.

أين إيران في قمة جنيف، وأين الصين الهاجس الأول والأهم للرئيس الأميركي؟ كانتا حاضرتين بقوة، في خلفية المشهد. يبقى ملف إيران في كنف مفاوضات فيينا حيث تتوقع واشنطن أن تكون موسكو متعاونة في جهود إحياء الاتفاق النووي كما في تعديله لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي، وهو الهدف الأمريكي الأعلى. كان بوتين سهل التوصل إلى اتفاق 2015 بلا مقابل تقريبا، أو آملا بأن يلقى تعاونا أمريكيا لدى تدخله الذي لم يكن بدأ بعد في سورية، لكن حساباته اختلفت بعد خمسة أعوام وبعد اتفاق استراتيجي يتفاوض عليه مع طهران، على غرار ذلك الذي وقعته الأخيرة مع بكين. فهل استطاع بايدن، بأسلوبه البراغماتي حيال إيران، دفع بوتين إلى تغيير تكتيكاته في فيينا؟

أما بالنسبة إلى الصين فستتعرف موسكو أكثر إلى توقعات واشنطن منها خلال الحوار الثنائي الإستراتيجي في شأن «المهمات» التي يمكن التعاون فيها. لا يرى بوتين دورا لروسيا في النزاع التجاري الصيني- الأمريكي، لكن يهمه ألا يكرس هذا النزاع «ثنائية قطبية دولية» تهمش روسيا «المستميتة للاحتفاظ بوضعها كقوة دولية كبرى»، وما يهمه أكثر أن يفتح هذا النزاع فرصاً طالما أنه مندفع نحو العسكرة. وإذ دأب حلف الأطلسي على التحذير من «تعاون عسكري متزايد» بين روسيا والصين، فإن قمة جنيف والحوار الذي سيليها قد يساهمان في تقليص هذا الخطر، لأن استمرار التعاون وتطويره بين الصين وروسيا سينعكسان سلبا على أي تسويات في الملفات الدفاعية الغربية- الروسية.

مسار «التطبيع» الثنائي بين أمريكا وروسيا سيكون أطول مما تصوره بايدن، وشكل لقاء جنيف فرصة كي يتعرف بايدن عن كثب إلى التراجع الذي انتاب القدرات الأمريكية على القيادة العالمية، إذ تغيرت طبيعة المصالح المشتركة التي يمكن أن تعيد العلاقة مع روسيا تحت السيطرة. في المقابل، أصبح في إمكان إدارته أن تحصر مجالات التنازلات الإقليمية لاجتذاب روسيا أو «تحييدها» في النزاع مع الصين، لكن موسكو وبكين بلورتا قواسم مشتركة تبدو الآن أكثر أهمية.

ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»