أتذكر تماما الفترة القصيرة التي كانت ما قبل وفاة جدتي، رحمها الله، وكيف أنها على الرغم من نسيانها معظم تفاصيل حياتها وغالبية من حولها، لكنها أبدا لم تنس ابنها البكر، بل كانت تعيش لحظة الفقدان مرارا وتكرارا.. اللحظة التي أدركت فيها أنها خسرته للأبد!.. لحظات مميتة من الألم والقهر، قد تكون لم تروها بكلمات، فأي كلمات تسعف مثل هكذا موقف؟!، وهي التي لم تكن أديبة أو شاعرة، فلم تكن سوى أم تُعبِّر بأدمع سالت دهرا على وجنتيها، فتركت مساحة سوداء عليهما، تخبر بحرقة جوف، أبى إلا أن يحفر طريقا يعكس ما كان يثور ويتفجر داخله!. كانت صرخة واحدة «عبدالعزيز» تخرج بقصة كاملة لكل من يصله صوتها.. صرخة تحمل مشهدا بكل تفاصيلها المرعبة، وربما لم تروها، لأنها كانت تفكر ببقية أفراد الأسرة. كان يجب عليها أن تكون القوية وتتحمل الألم، لذلك تكتمت عليها، حتى تستمر الحياة بالنسبة لهم، وهي التي كانت بحاجة أن تخرجها للعلن وتتحدث عنها، لعل وعسى يتحول الألم الحاد الذي يقطع أحشاءها إلى نبض ألم يعيش مع ضربات قلبها، حيث بدأ ونما حبه.
كل منا لديه ألم من تجربة أو صدمة له أو لمن في أسرته، ألم يأكل داخل الفرد، ويحاول أن يتحاشى حتى التفكير به، على الرغم من أنه ملازم جل لحظات حياته، ويشعر بأنه يكاد ينفجر إن لم يخبر به أحدا، لكنه يتركه يعيث في أحلامه رعبا وألما أفضل كثيرا من أن يخرج، وربما يتسبب في آلام لمن يعزهم ويخاف عليهم. تُرى إن لم يتم التعامل معه، فهل يخرج في لحظة انفجار أم لحظة غضب أم لحظات تفريغ قبل الموت، كما حدث مع جدتي؟.
عندما كنت أُدرِّس مرت عليّ الكثير من القصص التي كانت تخنق صاحباتها. لم أعرف ولن أعرف تماما لماذا تم اختياري لتفريغ حمل ثقيل كان يعذب تلك الأرواح البريئة؟!، فلم أكن المرشدة الاجتماعية ولا الأخصائية النفسية، ولا حتى كنت أُدرس مواد التربية الإسلامية. لماذا ذكرت الزميلات في هذا القسم؟، لأنهن كن لطيفات ومحبوبات جدا لدى الطالبات، لحلاوة ألسنتهن وسهولة التواصل معهن، خاصة في مجال النصح والإرشاد. المهم، وبعد تفكير وتأمل، وجدت أن كل ما كنت أفعله هو التقرب إليهن، وأن أكون دائما على طبيعتي معهن، فاتحة بابي وقلبي لكل من تطرق لتدخل، وتجد الأذن المصغية، الأذن التي لا تحكم ولا تتذمر، ولا تمل من التكرار، إلى أن تشعر صاحبة التجربة الأليمة أو الصدمة المشتتة بأنها تخلصت من السموم أو الحيرة وارتاحت. في البداية، كان الحديث صعبا، ولكن تدريجيا بات واضحا لهن أنه كان من الأفضل إخراجه من الداخل.
واليوم وأنا أتذكرهم، تمر عليّ قصص غير مروية لكثيرات غيرهن ممن قد لا يجدن من يصغي إليهن، وكيف لهن أن يتأكدن من صفاء نية المستقبل وقدراته وتقبله إن لم يعشن تلك الخبرات معها؟!. شخصية يشعرن من خلالها بأن الإناء الذي سوف يفرغن داخله رواياتهن سليم، ولن يخرج ما بداخله لأحد غيرهن. لقد أصبحنا في عصر وسائل التواصل الاجتماعي والتعليم عن بُعد أبعد ما يمكن عن بناتنا الطالبات، فكيف للمشاعر أن تبنى في فضاء افتراضي؟!. حقا اليوم أفكر بهن، وأفكر بقصص لهن لن تروى، فيقضين أيامهن في التحديق في الفراغ، ونحن لا نستطيع الوصول إليهن، ولا حتى المسح على رؤوسهن أو إعطائهن حضن محبة وعطف وتفهم؟!. آه من قصص سوف تظل مكبوتة، تحرق وتعذب أو تشغل وتُشوش، ونحن مشغولون عنهم بطرق التدريس عن بُعد، وتقنيات التعليم والإبداع في العروض التقدمية، بل بكل ما يبعدنا عن التواصل معهن على أرض الواقع!.
واليوم حتى داخل الأسرة الواحدة، نجد أننا، وفي ظل الجائحة التي فرضت علينا الوجود داخل جدران بيت واحد، لا نجد الوقت للاستماع إلى قصص لم تروَ!، وعلى الرغم من أنها قد لا تكون جميعها قصص ألم وفجيعة، ولكن تظل عبارة عن صدمات تُحيّر حاملها وتشتته!. كيف يجب أن يتعامل معها وهو في الكثير من الأحيان لا يفهمها أو يتقبلها أو يستغربها؟ أو ربما قصص خبرات لو أننا فقط نُصغي لتعلمنا سويا منها، على الرغم من غرابتها أو حتى قِدمها!. إن تمهيد الطريق للآخر كي يخرج ما بداخله ليس فضلا أو حتى واجبا، ولكنه هدية لأنفسنا كأفراد، أهم وحدة بمكونات المجتمع. نعم الإصغاء قد يكون أحيانا صعبا حين تجد أن الراوي لا يستطيع أن يرسم الصورة بوضوح، حيث إنك تجد تشوشا وتكرارا، ولكن بقليل من الصبر والتشجيع سوف تخرج القصة، وتبدأ تفاصيلها في التجمع والترتيب. فكما ذكرت من قبل، ليس كل متحدث أديبا، وليس كل صاحب تجربة شاعرا، المهم أن تخرج الرواية، وتستريح الروح من حمل قد يكون ضاغطا أو مؤثرا أو مشوشا لحياتها اليومية، أو ربما حتى مستقبلها.