في طهران، انتهت المعركة التي بدت معركةً وجودية. فالتراشق والتقليل من شأن الكل للكل، تسيد المشهد الانتخابي خلال الانتخابات الرئاسية.والوعود أقل من حجم الاتهامات وتبادل تحميل مسؤولية تدهور البلاد.

أحد المرشحين اتهم آخر، بمعارضة التعامل مع البنوك العالمية، والاتفاق النووي الذي يمكنه رفع العقوبات عن إيران. وفي شكل من أشكال التناحر، يقول مرشح لآخر، لقد عرقلتم أمور البلاد لمدة 10 سنوات بشعاراتكم وبياناتكم، ولا تعرفون شيئاً عن قضايا الدولة، وأقرب أصدقائنا بمن فيهم الصين والعراق يرفضون تقديم أموالنا إلا إن توصلت المفاوضات إلى نتائج.

واتهام أطلق من مسؤول لآخر بعدم الإفصاح عن أعداد القتلى والموقوفين نتيجة احتجاجات 2019. فقائمة الاتهامات والإرجاف التي تمخضت عنها الانتخابات الرئاسية، كبرى لا يتسع المجال لحصرها وذكرها. قد تكون اللحظة الأولى من نوعها المتفردة بهذا الشكل من الصراحة والمصداقية، في دولة مغلقة، تنتهج أكثر أشكال البوليسية والفاشية والوحشية على مستوى العالم.

لكن الملفت ما صدر عن بعض المسؤولين الإيرانيين، كالرئيس حسن روحاني المنتهية ولايته. فالاتهام الذي جاء على لسانه أشبه بـ«انقلاب» على رفقاء الأمس.

يقول «لا يغفر الله لمن لم يسمحوا لنا بإقامة علاقات طيبة مع بعض جيراننا، لقد قاموا بأشياء طفولية وغبية، هاجموا المراكز الدبلوماسية».

من يقصد على الصعيد الداخلي؟ أعتقد أنه الحرس الثوري الذي يتحكم في مفاصل الدولة بأوامر مباشرة من المرشد الأعلى، يضاف إلى ذلك الطغمة الحاكمة، ممن يُمكن تسميتهم «الدولة العميقة» في إيران، الموصوفون بـ«التطرف»؛ الذين تسير خطواتهم لتحقيق أهداف معقدة، أيضاً خاضعة لمعايير المرشد، وهو ما قاد لأن تعيش الطبقات السياسية الإيرانية حالةً من التنافر السياسي تشهده ساحات المحافظون والإصلاحيون والمتشددون.

من يقصد بجيراننا؟ حتماً المملكة العربية السعودية. وهنا يجب التنبّه إلى أن ذلك الإعلان من الرئيس «السابق» روحاني عن عجزه لمواجهة قوات الباسيج والحرس الثوري، التي هاجمت مقرات دبلوماسية سعودية في عهد روحاني، في يناير 2016، الأمر الذي دفع الرياض لقطع علاقتها الدبلوماسية مع طهران؛ وما صمت الرجل طوال هذه السنوات وخروجه للحديث بهذا الشكل من الوضوح وهو على أعتاب مغادرة المكتب الرئاسي، إلا دليل على أنه حكم البلاد مُكبلاً خلال ولايتين رئاسيتين، وتتم إدارته من دوائر الاستخبارات والحرس الثوري الإيراني.

ومهما كان الرئيس بهذا المستوى من المكاشفة ويُحاول ارتداء قناع وديع في أواخر اللحظات، وبرغم وصفه من قبل بعض الدوائر السياسية العالمية؛ بأنه انتهج سياسة انفتاح «نسبية»، تم قياسها على إبرام اتفاق مع القوى الدولية، إلا أنه لا يُمكن تجاهل النعرة الطائفية التي يكتنزها، إذا ما ربطنا فترة حكمه بتطوير برنامجها الصاروخي البالستي، وإمداد جماعة الحوثي المارقة بالمال والسلاح والعتاد، ناهيك عن تغذية الصراع المذهبي في العراق، وتنمية قدرات حزب الله في لبنان، والمشاركة في قتل الشعب السوري.

لكن لماذا التصريحات في هذا التوقيت؟.

أتصور أنها محاولة لتصفية حسابات جثمت على صدره إبان رئاسته للجمهورية. لكني أميل إلى أن ذلك يمكن أن يُفسر المرحلة القادمة في عهد الرئيس إبراهيم رئيسي، المقرب من المرشد الأعلى، الذي عينه في مناصب عدة، كان أبرزها المنصب الأعلى في السلطة القضائية الإيرانية، وأُطلق عليه نتيجة تبوئه هذا المنصب بـ«قاضي الموت»؛ التي ستفترض زيادةً في الأنشطة التخريبية الإيرانية في المنطقة، وعودة الإرهاب الطائفي إلى مستوى غير مسبوق. فطهران من حيث الآلام هي مُثقلة، بعد أن تسبب مقتل الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري، واغتيال محسن فخري زادة العالم النووي الأبرز في إيران ومهندس برنامجها النووي، إضافة إلى الحدث الأهم في تاريخ الجمهورية، وهو إقدام إسرائيل على سرقة الأرشيف النووي الإيراني، من خلال عملاء جندتهم تل أبيب لتنفيذ هذه العملية الكبرى، بجرحٍ كبير في الصورة العامة للدولة، واقترب وصفها بـ«الدولة الكارتونية».

أعتقد ألا خيار أمام الرئيس المنتخب مؤخرًا وبارك فوزه المرشد الأعلى للجمهورية، إلا تلميع وجه الدولة، التي لم تتقدم خطوةً في الرد على تلك العمليات السابق ذكرها، التي كسرت هيبتها على المستويين المحلي والدولي، وذلك يتطلب نشاطًا من المفترض أن يقوده الحرس الثوري، الذي على الأغلب سيلجأ للعملاء في المنطقة، أمثال حزب الله في لبنان وفصائل عراقية، والحوثي في اليمن، وحماس في غزة. فالاستنتاج الواضح الذي كُسر إطاره، يكشف أن شكل الدولة القوية التي تجاوزت كل المحظورات الدولية، من النواحي السياسية والاقتصادية، بات هشاً وضعيفاً؛ من خلال انجلاء الستار عن الصراع الذي نشأ بين المتنفذين خلال الانتخابات الرئاسية الماضية، في وضع أقرب ما يكون إلى «انقلاب الكل على الكل».

بل ويُشير إلى أن حالة الفساد والتناحر السياسي التي خرجت عن النص، هي صورة لطالما حرصت دوائر صنع القرار على إخفائها، للمساهمة في تكريس مفهوم الدولة القوية، وجلب أكبر قدر من حالات التأييد للمنهجية الإيرانية، التي طالما لم تجد قبولاً إلا من قبل حركات مفلسة سياسيًا وتُعاني قصرًا في الرؤية، ولا تخجل من الخضوع لشعاراتٍ مزيفة، ككذبة تحرير فلسطين، ومواجهة إسرائيل. والسؤال، كيف لدولة لم تتمكن من الثأر لأهم رجالاتها، مُجابهة تل أبيب، التي تُعد ضمن أقوى دول المنطقة من ناحية التسلح العسكري.! إن ما أستطيع الخلاص لقوله في نهاية الأمر، من خلال ما يُمكن رؤيته في تلك الصورة المُعقدة، والمشروخة، والبائسة، المُعبرة عن بلادٍ باهتة اللون، والرائحة، مُغلقة ومُغلّفة بنبذ الآخر، تُمثل آخر صيحات التطرف في العالم أجمع؛ أن الإرهاب الذي تمارسه ولاية الفقيه انعكس وارتدّ مع الوقت على وضعها الداخلي، وأن أي حلم إيراني يطمح للتغيير إلى الأفضل سيتم وأده قبل ولادته، وأن الصراع بين مراكز القوى سيتنامى ويتصاعد، وأن البلاد على «معركة كسر عظم»، بينما يبقى الإنسان في إيران كالغريق الذي لا يخشى البلل. هذه هي ديمقراطية العمائم. والخافي أعظم.