قطعت المملكة شوطًا كبيرًا في مسيرتها نحو تحديث واستكمال منظومتها القضائية، وذلك عندما أعلن وزير العدل الدكتور وليد الصمعاني، أول من أمس، اكتمال تفعيل قضاء الاستئناف وتفعيل الاعتراض بطريق النقض أمام المحكمة العليا، إعمالا لمبدأ تعدد درجات التقاضي، واختصارًا للزمن، وضمان عدم وقوع الضرر بأي شكل من الأشكال على المتقاضين، وذلك بمباشرة محكمة الاستئناف لغالبية الدعاوى والفصل فيها مباشرة، إما بنقض أو تأييد أحكام محاكم الدرجة الأولى، مرافعةً أو تدقيقاً. واكتمال تفعيل قضاء الاستئناف.

وهي لحظة فارقة تلك التي أعلن فيها وزير العدل اكتمال تفعيل قضاء الاستئناف في مساري المرافعة والتدقيق، وتفعيل الاعتراض بطلب النقض أمام المحكمة العليا، بما يضمن تحقيق العدالة وتوفير الجهد، لا سيما بعد مراعاة سلاسة الانتقال أثناء تنفيذ المراحل الثلاث للتحول من قضاء التمييز إلى قضاء الاستئناف، وعدم تأثر الدعاوى المنظورة أثناء فترات الانتقال، والتغلب على التحديات التشغيلية التي واجهت طريق تفعيل قضاء الاستئناف.

ولا شك أن استكمال قضاء الاستئناف في مساري المرافعة والتدقيق يسهم في تعزيز مكانة القضاء السعودي واستقلاليته ويدعم تسريع الفصل في المنازعات، ويضمن جودة الأحكام القضائية، ويوفر الشفافية لطرفي الدعوى، وهو ما سينعكس على استدامة النهج التطويري الذي تسير عليه بلادنا بحمدالله لترقية مرفق القضاء، ويؤكد الحرص على تطبيق أحدث النظم الإجرائية، سواء بتفعيل التقنية أو الذكاء الإجرائي من خلال اختصار الإجراءات وإعادة هندستها، وفق تعبير الوزير.

وتكمن أهمية الخطوة الأخيرة التي أعلنتها الوزارة بالتحول من قضاء التمييز إلى الاستئناف في أنها سوف تؤدي بالتأكيد إلى تجويد الأحكام القضائية بالكامل، والتأكد من الوصول التام إلى العدالة، حيث أن محاكم الاستئناف سوف تعيد نظر الدعاوى بالكامل، بواسطة قضاة متخصصين من ذوي الخبرة الكبيرة والتأهيل الرفيع، إضافة إلى تحقيق استقرار المبادئ القضائية، والمزيد من التميز في تسبيب الأحكام.

كذلك فإن ما يمنح تلك التعديلات زخمًا كبيرًا وأهمية مضاعفة هو الارتباط الوثيق بين تعدد درجات التقاضي، وسرعة البت في القضايا دون تأخير من جهة، وبين حقوق الإنسان من جهة أخرى، وهي غاية تركز السلطات على الوصول إليها. فمن تتم إدانته في محكمة الدرجة الأولى تكون أمامه الفرصة لإعادة محاكمته أمام محكمة الاستئناف، التي تعيد النظر في القضية برمتها ومن جميع جوانبها، ولا تكون ملزمة بما اتخذته محاكم الدرجة الأولى، لذلك يتم التعامل مع القضية كما لو أنها لم تنظر من قبل، مما يوفر ضمانة قوية لمبدأ تحقيق العدالة.

ولضمان الوصول إلى تلك الغاية فقد ركزت غالبية الإصلاحات القضائية التي تمت مؤخرًا بصورة أساسية على تعزيز حقوق الإنسان وضمانها وترسيخها وجعلها جزءًا من ثقافة المجتمع، نتيجة لانضمام المملكة وتوقيعها على العديد من العهود والمواثيق الدولية. والخطوات الواسعة التي قطعتها السعودية في هذا المجال جعلتها في طليعة دول العالم التي تعمل على تحديث أنظمتها القضائية وتطويرها.

كذلك تهدف التعديلات والإضافات والتحديث المتواصل الذي يشهده مرفق القضاء خلال الفترة الحالية إلى تحقيق مفهوم القضاء المؤسسي الذي يعني الانتقال من القضاء الشخصي الذي كان يقوم بالأساس اعتمادًا على الضمانات المتوافرة في شخص القائم بالقضاء إلى مرحلة يكون فيها الحكم والرأي الفني للجهاز القضائي ممثلًا بالمحاكم والدوائر، بحيث لا يكون رأي الفرد معتبرًا بذاته إلا إذا كان ضمن هذا الإطار المؤسس، لضمان الوصول إلى القناعة الكاملة بالحكم القضائي.

ومن أبرز مبادئ القضاء المؤسسي التغيير الذي شهدناه خلال الفترة الماضية من إلزام القضاة والتزامهم بتطبيق التشريعات القانونية المحددة وإنزالها على القضايا المنظورة أمامهم، فالقضاء في السابق كان يقوم بدور إضافي لدوره المنوط به وهو الاجتهاد باختيار الحكم الملائم للواقع، أما في الوقت الحالي فإن دوره أصبح محددًا في تطبيق النصوص القانونية المستندة إلى الشرع على الوقائع المتنازع عليها. وبذلك تتم ضمانة عدم تفاوت الأحكام من قاض إلى آخر في قضايا مشابهة، مما يمكن أن يثير البلبلة وسط الناس.

رحلة تطوير القضاء ما زالت مستمرة، وقد مرت بالعديد من محطات النجاح خلال الفترة الماضية، وستشهد المزيد بإذن الله، ويكفي أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - يقفان وراءها ويتابعانها بصورة شخصية، ويحضر في هذا المقام تأكيد ولي العهد أن المملكة ماضية في تطوير منظومتها التشريعية، واستحداث تشريعات جديدة تضمن القدرة والقابلية على صيانة حقوق جميع الأطراف وضمان العدالة، وإعلانه عن إعداد مشاريع نظام الأحوال الشخصية، ونظام المعاملات المدنية، والنظام الجزائي للعقوبات التعزيرية، ونظام الإثبات.

كل ذلك يضاف إلى ما تحقق خلال الفترة الماضية، مثل إنشاء النيابة العامة، والمحاكم المتخصصة، والدوائر الخاصة بقضايا الفساد المالي والإداري، وتفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني خلال جائحة كورونا بصورة كاملة بدءا من رفع الدعاوى وحتى التنفيذ، واستمرار العمل في مدونة الأحكام القضائية. كل تلك الجهود تثبت أن الطفرة التشريعية التي تشهدها المملكة في هذا العهد الميمون ماضية بثبات تام وتسير وفق خطة مدروسة للوصول إلى غايات محددة، أبرزها تحقيق العدالة وضمان الحقوق وسيادة مبدأ القانون الذي قامت عليه هذه البلاد المباركة.