في البداية، قبل الإجابة عن السؤال، دعوني أعترف بشيء من باب الشفافية، «كنت» متحمسا جدا لدخول رجالات القطاع الخاص في المناصب الحكومية، لأسباب عديدة ذكرتها سابقا، ومنها الاعتقاد الذي كتبناه منذ سنوات، ولمرات عديدة، أن 70% من مسؤولي الدولة كانوا بلا كفاءة للكرسي، ويفتقدون المهارات. صحيح أن هذا الرأي جلب علينا هجوما في حينه، لكن استمررنا عليه، لأن البيروقراطية والواسطات كانت تشل النشاط في الأجهزة الحكومية، وكانت هناك قلة مرونة وقلة إبداع.

فكان اعتقادنا أن إحضار القطاع الخاص والتجار المميزين سيجلب مدرسة جديدة في الحيوية والمرونة، والتأقلم مع الأفكار العملية للحكومة، خصوصا أن التجار بطبعهم من أكثر الناس تأقلما مع الأوضاع، لأن السوق شيء متحرك ومتغير العوامل، ومن لا يستطيع التغير والتأقلم معه، فإنه يسقط. لذلك، تمكنوا - أي التجار والقطاع الخاص - عبر السنوات من تكوين قدرات ومهارات لحل المواضيع بأقصر الطرق، ونمت لديهم المرونة، وأيضا قدرة احتواء التكاليف، والتفكير بأقل بيروقراطية من المسؤول الحكومي، التقليدي والبيروقراطي بحكم التعود.

طيب كيف نفسر مقولة «التجارة والإمارة لا يجتمعان»؟، أعتقد أن المقولة صائبة، ولكن تفسيرها هو الذي أشكل على البعض. فعلا التاجر إذا استمر على العقلية التجارية في إدارة الأمور، من ربح وخسارة، صعب عليه أن يدير المنصب العام أو الحكومي، لأن المنصب العام ينظر للأمور من منظور أوسع، وتدخل في اتخاذ القرار عوامل كثيرة تتعلق بالناس، وليس مجرد منظور تجاري بحت، كما هو عند التاجر. كما أنه إذا جمع بين تجارته والمنصب الحكومي، في الوقت نفسه، سيؤدي دون شك لتضارب مصالح، وربما يؤدي إلى ميل النفس للمصلحة الخاصة، لكن إذا أحضرت تاجرا ماهرا، يملك المهارات اللازمة والمرونة والتكيف، وله القدرة على إعادة برمجة تفكيره وأهدافه (مايند ريسيتنج)، مع الاحتفاظ بالمهارات الإدارية، فإنه سيصبح مسؤولا حكوميا بارعا ومبدعا، والتاريخ مليء بالعديد من الأمثلة. إذن، التجارة والإمارة قد يجتمعان في هذه الحالة، وسأضرب مثالا للتوضيح، لو أحضرنا مسؤولا بنكيا وإداريا محنكا وذكيا، وطلبنا منه أن يدير منظمة غير ربحية أو منظمة غير حكومية، فإنه في العادة سينجح ويبدع إذا كانت لديه عقلية «مايند ريسيتنج». قد يقول قائل: كيف لمسؤول بنكي أكبر همومه زيادة أرباح البنك، ومعدل الربح المالي، وتقنين التكاليف، ويمص الريال، أن يتحول فجأة بين ليلة وضحاها إلى إدارة جمعية غير ربحية أو خيرية تهتم بالأمور المعنوية والحياتية ومساعدة الناس، وينجح؟!. نعم هو قادر إذا كان إداريا مخضرما، وكانت لديه القدرة على التكيف مع أهداف المؤسسة أو المنصب الجديد، وربما سينجح أكثر من العديد من البيروقراطيين الذين قضوا سنوات في العمل غير الربحي!. أما مسألة تضارب المصالح والفساد، فربما حاليا شبه اختفت، ولا خوف منها كثيرا، بسبب النشاط الكبير لهيئة مكافحة الفساد.


ولو رجعنا تاريخيا لوجدنا أن بعض التجار أثبتوا كفاءتهم في العمل العام، لأنهم يملكون مهارات الإدارة فطريا، فالعديد من سفراء وممثلي الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - في عدة بلدان كانوا تجارا أو من «العقيلات»، وأبدعوا في القطاع العام، وكان الناس يمدحونهم وراضين عن أدائهم. طبعا كل مرحلة لها طبيعتها وظروفها، لكن هذا مثال كان ناجحا في بداية تأسيس الدولة.

إذن، ما المشكلة في فشل بعض التجار والقطاع الخاص في تولي وإدارة المنصب الحكومي؟. أعتقد أنه على الرغم من حماسي للقطاع الخاص، لسد الفجوة في الكفاءات في القطاع العام، فإن البعض ربما لا يصلح للعمل الحكومي على الرغم من نجاحه كتاجر!. ربما هو أتقن التجارة وتشربها، ويملك المهارات المطلوبة في مجالها، لكن لا يملك أهم ثلاث صفات في إدارة المنصب العام «إعادة برمجة التفكير - الرؤية الإستراتيجية للأمور العامة - مهارة التأقلم والمرونة»، فعندما يعين في منصب حكومي، فلا شك أنه يستطيع الاحتفاظ بمهاراته وكفاءته وخبرته الإدارية السابقة، لكن يجب عليه، لكي ينجح، أن يعيد برمجة التفكير، ليواكب أهداف ومهمة المركز الجديد، ويجب أن تكون لديه رؤية ذات أفق أوسع للأمور فيما يخص حياة الناس، وهنا العوامل تكون عديدة، حيث يبدو من زاوية ما أن هذه الإستراتيجية أو القرار صائب جدا، وهذا ما اعتاده، لكن عندما يدخل كل العوامل الأخرى المتعلقة بحياة الناس، وينظر من عدة زوايا، ربما يغير رأيه، وربما قبل 24 ساعة، عندما كان تاجرا، لو عرض عليه الموضوع لأختار - دون تردد - هذا القرار أو الإستراتيجية، لكن بعد 24 ساعة عندما أصبح في المنصب الحكومي، فإنه إذا كان ذا رؤية إستراتيجية، ويعرض عليه الموضوع نفسه، فإنه سيختار قرارا مختلفا!. أما الصفة الثالثة، وهي التأقلم والمرونة، فعندما كان تاجرا كانت الأمور ربما أسهل، ويمكن التحكم في كثير من العوامل، لكن عندما دخل «معمعة» العمل الحكومي المتشعب، فإن الموضوع ليس بالبساطة والسهولة لإنجاز الأمور، لذلك يجب التأقلم والمرونة لإنجاز الأمور. أيضا المنصب الحكومي يفرض على المسؤول التقرب، ومراعاة شؤون الناس، والاستماع إلى تطلعاتهم ورغباتهم، فربما في القطاع الخاص قد تطلب دراسة سوقية أو دراسة جدوى من أحد المكاتب الاستشارية أو بيوت الخبرة، وتأتيك البيانات والتحليلات، وتتعامل معها كأرقام، لكن في المنصب الحكومي ربما تحتاج أيضا للاقتراب من الناس، ومعرفة ردودهم وتفاعلهم. الموضوع في المنصب العام ليس ورقة وقلما وحسابات فقط، بل أمور متعلقة بحياة الناس، وليس فقط تطبيق قوانين، بل ربما روح القانون، وربما حتى تعديل القانون، لمساعدة الناس، فالقوانين وضعت في الأصل لتنظيم حياة البشر، والسياسات والإستراتيجيات ليست شيئا مقدسا، فهي قابلة للتعديل والمرونة، بناء على الأوضاع والظروف.

وللإجابة عن السؤال المطروح في عنوان المقال، فهي: نعم، ولكن البعض!. ما زلت بعض الشيء متحمسا لدخول بعض المميزين في القطاع الخاص، والاستفادة منهم في القطاع الحكومي، لكن بعد فلترة، لتوفير الصفات الثلاث التي ذكرناها أعلاه، فمثلا ليس لدي أي تحفظ لو أن مسؤولا بنكيا يدير إحدى الجامعات إذا توافرت لديه الصفات، على الرغم من الاختلاف الكبير بين المجالين!، وأعتقد أنه سينجح أكثر من العديد من بعض مديري الجامعات الذين قد لا يملكون الكفاءة أو المؤهلات. البلد الآن يمر بمرحلة تاريخية، وقفزة هائلة نحو التقدم والازدهار، ويجب الاستفادة من كل طاقات ومهارات أبنائه، والقطاع الخاص يزخر بالكفاءات، لكن نحتاج كفاءات كما هي مبدعة في الإدارة، تعرف جيدا وتتذكر روح وأهداف المنصب الحكومي، الذي هو لخدمة الشعب والمواطن، يلبي توقعاته ورضاه، وعدم التقوقع في البرج العاجي، فالكرسي له سحره، لكن يجب تذكر - جيدا - مهارات القطاع الخاص، ونسيان أهدافه!، وإعادة ترتيب الأولويات والأهداف.