يروي عالم الإنسانيات والآثار (الأنثروبولوجيا) البريطاني بريان فاغان، بأسلوب قصصي شائق، أحداثا علمية - في تتبع تاريخي - عن تأثير المناخ في حياة الإنسان منذ عشرات الآلاف من السنين قبل الميلاد، بدءا من تراجع العصر الجليدي المتأخر، ليفسح المجال لجو أدفأ حتى يصل إلى «الصيف الطويل»، الذي ما زلنا نحياه حتى الآن، والذي اختاره عنوانا لكتابه، الذي يمكن عده سردا ممتعا للاحترار والإنسانية منذ العصر الجليدي العظيم.

الثورة الزراعية

يوضح الكتاب كيف أثر المناخ في جهود الإنسان لتوفير الطعام لنفسه، وهو في طور بدائي، يعمل فيه بالصيد وجمع الثمار، حيث تؤثر تغيرات الفصول في هجرة حيوانات الصيد من مكان إلى آخر، وفي اختلاف أنواع الثمار بين ما يؤكل وما لا يؤكل، ثم أدت تقلبات المناخ، من أمطار وجفاف وفيضانات وعواصف، إلى أن حاول الإنسان تأمين طعامه وحياته على نحو أكثر استقرارا، فكان أن بدأت الثورة الزراعية، لتوفير حبوب الإعاشة، وأخذ البشر يتجمعون في المناطق التي يسمح مناخها وأرضها بالزراعة، فنشأت القرى ثم البلدات ثم المدن، وبدأت الحضارات القديمة في أقطار بأسرها حول الأنهار مثل النيل ونهري دجلة والفرات.

نظم الحضر

من المعلومات الطريفة التي يوردها الكتاب أن الإنسان البدائي الصياد/ جامع الثمار كان أكثر قدرة على التكيف مع تغير المناخ والبيئة، فهو إذا قلت حيوانات الصيد أو الثمار التي تؤكل، فلديه حل سهل عليه تنفيذه، وهو أن يهاجر إلى أقرب منطقة أخرى يجد فيها احتياجاته البسيطة البدائية، وهذه المناطق الأخرى تتوافر تماما مع قلة عدد السكان وكثرة مساحات الأرض البراح والغابات بلا قيود.

أما مع نشأة الزراعة والمدن والحضارة، فإن الإنسان يصبح مرتبطا بالأرض المزروعة، ومقيدا بنظم الحضر الاجتماعية التي تجعله أكثر رفاها وأقل قدرة على التكيف مع التقلبات الطارئة، خصوصا إذا كان زمنها طويلا. هكذا يصبح إنسان زراعة الإعاشة أكثر استهدافا لمخاطر التغيرات المناخية، خصوصا مع تزايد التنافس على الأراضي الزراعية، على نحو قد يؤدي إلى نشوب الحروب والثورات الداخلية عندما تحدث مجاعات إثر فترات جفاف أو فيضانات طويلة.

انهيار «أور»

يتتبع «فاغان» في كتابه آثار التغير المناخي في الحضارات على مدي الخمسة عشر ألف عام الماضية، مستعرضا كيفية استجابة الحضارات للتغيرات البيئية أو التي تغيرت بشكل جذري بسببها. أحد الأمثلة الأكثر إقناعا لـ«فاغان» هو تاريخه التفصيلي لمدينة «أور»، فيما يُعرف الآن بـ«العراق الحديث»، حيث كانت ذات يوم مدينة عظيمة في واحدة من أقدم الحضارات في العالم، ازدهرت أولا بفضل هطول الأمطار الغزيرة، ثم عانت أكثر عندما تحولت الرياح الموسمية في المحيط الهندي جنوبا، مما أدى إلى تغير أنماط هطول الأمطار. بحلول 2000 قبل الميلاد، انهار اقتصادها الزراعي، وهي اليوم منطقة مهجورة، تجمع الأضرحة المتحللة في أقصى الصحاري. يرى «فاغان» أن هذا الحدث محوري، قائلا: «لقد كانت المرة الأولى التي تتفكك فيها مدينة بأكملها في مواجهة كارثة بيئية».

فيضان السهول

يستكشف «فاغان» الاضطرابات المناخية التي خلفت 20 مليون قتيل جراء الأوبئة المرتبطة بالمجاعات في القرن التاسع عشر. ويشير إلى أن 200 مليون شخص بالكاد يعيشون على الأراضي الزراعية الهامشية في أماكن مثل شمال شرق البرازيل وإثيوبيا والساحل الصحراوي، إذ ارتفعت درجات الحرارة أعلى بكثير من المستويات الحالية، وازداد منسوب البحار وفيضان السهول الساحلية، لافتا إلى أن الدمار قد يقزم أي حضارة عرفتها البشرية من قبل. لا يقدم «فاغان» حلولا سهلة، لكنه يقدم تاريخا مقنعا لدور المناخ في الخلفية، وأحيانا في المقدمة للتاريخ البشري، ويقدم للقارئ وفرة من الأدلة الجيولوجية والأثرية التي تدعم فكرة أن الحضارة الإنسانية قد تشكلت من خلال تغير مناخي كبير، إلى حد أكبر مما كان يعتقد سابقا.

أسلوب الحياة البدوي

يسند «فاغان» بياناته العلمية بامتصاص السرد التاريخي لـ«الصيف الطويل»، وهو اتجاه الاحترار الهولوسيني في الخمسة عشر ألف سنة الماضية، الذي دلل البشرية عبر التاريخ المسجل. بينما كان العلماء يعرفون دائما أن دورات التبريد والاحترار في هذه الحقبة قد أثرت في البشر، إلا أنه في الجزء الأخير من القرن العشرين فقط كان لديهم جليد مفصل ولب رواسب، لتقديم أدلة على أحداث معينة. يستخدم «فاغان» المعلومات الجديدة في توجيه القراء لفهم التغيرات المناخية الرئيسية في تاريخ البشرية، بما في ذلك الجفاف الذي أدى إلى تكوين المدن الأولى، وزيادة هطول الأمطار المرتبطة بانتشار الطاعون الدبلي، والانفجارات البركانية التي أدت إلى اتجاهات تبريد كارثية. على الرغم من تكرار هذه الأمثلة في كثير من الأحيان، فإنها تثبت، دون أدنى شك، أن البشر أصبحوا أكثر عرضة للتأثر بتغير المناخ، منذ أن تركنا أسلوب الحياة البدوي لأسلوب قائم على الزراعة. يشجع هذا الكتاب القراء على تقدير الروابط الواضحة بشكل متزايد بين التغيرات المناخية العظيمة والمجتمع البشري والسياسة والبقاء.

مخاطر الاحتباس

إذا كان الكتاب يطرح موضوعا علميا صعبا، لكنه يعرضه بلغة رفيعة، تبدو كما لو كانت نصا أدبيا، والمعنى الذي يقصده المؤلف بـ«الصيف الطويل» هو زيادة حرارة المناخ ببطء منذ 1850م، على نحو يكاد يكون متواصلا، ولا يزال مستمرا حتى يومنا هذا.

ويتقاطع الكتاب مع التحذيرات والمخاوف المتصاعدة من مخاطر تنتظرها البشرية بسبب تغيرات المناخ، وتنامي ارتفاع وزيادة «الاحتباس الحراري».

بريان موراي فاغان Brian Murray Fagan

- ولد في إنجلترا 1936

- مؤلف لكتب علم الآثار الشعبية

- أستاذ فخري لعلم الإنسان في جامعة كاليفورنيا - سانتا باربرا

- درس علم الآثار في كلية بيمبروك - كامبريدج

- كان أمينا لما قبل التاريخ في متحف ليفنجستون - زامبيا - من 1959 إلى 1965

- شارك في العمل الميداني حول التاريخ الإفريقي

- استقر في الولايات المتحدة من 1966، وعمل أستاذا لـ«الأنثروبولوجيا» في جامعة كاليفورنيا

- يُعد أحد الكتاب الأثريين والتاريخيين الراود في العالم

- يحظى باحترام واسع كمحاضر شعبي حول الماضي

مؤلفات:

- مغامرات علم الآثار

- The Rape of the Nile، وهو تاريخ كلاسيكي لعلماء الآثار والسياح على طول نهر النيل

4 كتب عن:

- تغير المناخ القديم والمجتمعات البشرية

- الفيضانات والمجاعات

- الأباطرة (عن النينوس)

- العصر الجليدي الصغير