يقول «جيمس هنري برستد» في كتابه «انتصار الحضارة»: «إن أهم مكان سكنه الإنسان في غربي آسيا هو ذلك الجزء المحصور بين الجبال في الشمال والصحراء في الجنوب، وهو يكاد يكون حدودا تفصل هاتين المنطقتين، وساعدته الطبيعة لأن يصبح أرضا منزرعة، وذلك المكان هو ما نسميه «الهلال الخصيب»، لأنه يكون شكلا نصف دائري على وجه التقريب،ويرتكز حرفه الغربي في جنوب شرقي البحر المتوسط، ووسطه فوق شبه جزيرة العرب، ويرتكز حرفه الآخر عند «الخليج العربي»، وخلف ظهر هذا الهلال تقوم الجبال المرتفعة، وعلى ذلك تكون «فلسطين» عند نهاية الجزء الغربي منه، وبلاد «بابل» في الجزء الشرقي، في حين تكون بلاد «آشور» جزءا كبيرا بوسطه.

وهذا «الهلال الخصيب» ليس إلا امتدادا لصحراء العرب، وهو يشبه شواطئ جون صحراوي، تحيط به الجبال، ولكن هذا الجون ليس مملوءا بالمياه، ولكنه مملوء برمال الصحراء التي تمتد نحو خمسمائة ميل».

إذا قابلنا ما يقوله «برستد» عن «الهلال الخصيب»، وأنه أهم وطن للساميين، وعن حدوده، بما قاله القدامى من المؤرخين الإسلاميين، نجدهم متفقين على أن العراق أقدم وطن لأبناء «نوح»، ونجدهم متفقين على أن حدود بلاد العرب، التي يعد «الهلال الخصيب» جزءا منها، هي من الشرق «الفرات والخليج العربي وخليج عمان»، ومن الغرب «البحر المتوسط والنيل والبحر الأحمر»، ومن الشمال «مجرى الفرات»، الذي ينحدر من الجبال المرتفعة ويسير مع سفوحها من الغرب إلى الشرق، متجها نحو الجنوب إلى أن يصب في الخليج العربي، ومن الجنوب «بحر العرب».

وإذا رجعنا إلى تاريخ «الهلال الخصيب» القديم، نجد روابط عديدة تربط قسمي «الهلال الخصيب»: العراق وسورية، جميعها بوسط الجزيرة العربية وجنوبها، وروابط تراها واضحة في سمات السكان في الشمال والوسط والجنوب، وهياكلهم، وفي الأفكار الدينية وفلسفتها، وفي اللغة وخطوطها وحروفها وقواعدها، وفي لون الحضارات التي عرفت بـ«الحضارات السامية» التي أصبحت آثارها تراثا حضاريا عربيا، والتي اعترف الكثيرون بفضلها على الحضارة الحديثة، لأنها كانت الدرجة الأولى لسلم الحضارة الإنسانية.

فالساميون العرب الذين عاشوا في عهد «السومريين» في غرب الفرات هم أبناء عم الساميين الذين عمروا سورية الكبرى، التي هي: لبنان والشام وفلسطين والأردن، فلبنان و«صيدون» و«عسقلان» عمورية في نهاية أسمائها، و«العموريون» أو «الأموريون» هم الساميون الذين كان سكان غرب الفرات في عصر «السومريين»، والساميون الذين سكنوا «الهلال الخصيب» هم العرب الذين عادوا من قلب الجزيرة العربية إلى بلاد ما بين النهرين، التي غلبهم على أمرها السومريون حينا من الدهر.

كان للممر السوري الطبيعي، الذي تحدث عنه «فيليب حتي» في كتابه «تاريخ سورية»، أثره في دعم تلك الروابط، حيث كان ذلك الممر يبدأ – كما يقول «حتي» - عند الخليج العربي، ثم يصعد مع دجلة إلى ضواحي «نينوى»، ثم يتجه غربا إلى الموانى السورية، وهكذا يصل بين «تل حلف» و«حران» و«ماري» و«حلب»، وغيرها من المدن القديمة. وفي هذا السهل، يبدأ التاريخ السوري المستمر، وأول من بدأه الساميون، وهم «الأموريون».

فقوس «الهلال الخصيب» يبدأ شرقا من مصب الفرات في «الخليج العربي»، ويسير مع الفرات إلى نهاية الشمال، ثم يميل من شمالي سورية إلى سواحل «قنسرين»، وهناك نجد البحر المتوسط، وهو الحد الغربي لسورية وفلسطين ولبنان. ويبدأ وتر القوس من مصب الفرات، من حيث بدأ القوس، مارا بشمالي العروض ونجد والحجاز – السراة - وبشمالي تهامة وجنوبي خليج العقبة، وشبه جزيرة سيناء. وخليج العقبة كان يسمى قبل الميلاد بخمسمائة عام «خليج لحيان»، نسبة لـ«بني لحيان» الذين كانوا يملكون تلك الأرض.

وحدود «الهلال الخصيب» في الماضي لا تكاد تختلف عن حدوده في الحاضر، وسكان الهلال الخصيب من نحو 3500 ق. م. – كنعانيين وعماليق وإرميين – هم أجداد سكانه العرب الذين عاشوا من بعدهم على أرض الهلال وتحت سمائه، كما تؤكد ذلك أقوى البحوث بالأدلة والبراهين، فليس المد والجزر في حدود «الهلال الخصيب» إلا تعبير عن التطورات الجيولوجية لهذه الدهور الطويلة، ولكن كل التطورات الجيولوجية بجميع أشكالها وألوانها لم تفصم «الهلال الخصيب» عن جزيرة العرب.

وإذا ألقينا نظرة على «الهلال الخصيب» في خارطة شبه الجزيرة العربية، نجده ينقسم إلى أربعة أقسام طبيعية: القسم الشرقي، ويتكون من بلاد ما بين النهرين بواحتها وسهولها، والقسم الغربي الذي يتكون من جبال سورية الشامخة، ونجد القسم الأوسط، وهو البادية، يمتد بين العراق وسورية، ونجد القسم الشمالي يتكون من هضاب وجبال، تفصل بين «الهلال الخصيب» وبقية غرب آسيا.

ولعل عدم وجود فواصل طبيعية بين سورية والعراق هو الذي جعل النفوذين العراقي والسوري يتقاسمان البادية تارة، وينفرد بها أحد القطرين تارة أخرى منذ عهد «سرجون»، الذي تقدم بجيوشه من الفرات ودجلة حتى بلغ البحر المتوسط، وهو الذي جعل الصراع عنيفا بين «الحثيين» و«البابليين» و«الآشوريين»، وهو الذي جعل الخلاف مستمرا بين «الساسانيين» و«الرومانيين»، فالحدود التي تفصل بين سورية والعراق – طرفي «الهلال الخصيب» – حدودا مائعة غير ذات فواصل طبيعية وحضارية وسياسية، فليست هناك فواصل من نوع ما.

وإذا أردنا أن نرسم لـ«الهلال الخصيب» صورة واضحة المعالم، تفيدنا في معرفة تاريخ هذا القسم من الجزيرة العربية، فعلينا أن نساير الأحداث التي جعلت للعراق كيانا خاصا، ولسورية كيانا خاصا، ونبحث في جغرافية كل قسم على حدة، فإن ذلك أوضح للبحث، وأنفع للقارئ الذي يريد أن يعرف تاريخ الجزيرة العربية على ضوء وضعها الجغرافي، ويعرف شكلها الجغرافي على ضوء أحداثها التاريخية.

1966*

* كاتب وصحافي ومؤرخ سعودي " " 1329-1404هـ "