أذكر تماما، كثيرا من الآمال التي كان يتمنى حدوثها كثير من النابهين، يوما ما؛ وكان البعض يصفها بأنها أمور جدلية، وضاغطة على عقول الناس، وبات المتعطشون في خيبة أمل من أن يكونوا من أهل الدفع في اتجاه توجيه من حولهم، بأنه في آخر المطاف لن يصح إلا الصحيح، وأن تغلغل الفهم الخاطئ لن يستمر، ولو بعد حين، وأن أي تندر أو تفكه ضد لغة العقل سيُهزم، عاجلا أو آجلا..

لا أقصد أبدا أمور الدين، فمسائل الدين من (الحلال البين)، و(الحرام البين)؛ من يقوم بالتهوين من شأنها لن ينتج ولن يفلح أبدا، ولكن أكتب عن تضييق الخناق على الناس، ونزع الخيرية منهم، ورميهم بما ليس فيهم من مخالفات ثقافية أو اجتماعية، وأحيانا دينية ووطنية، وأحمد ربي أن إقصاء العقول الدينية الشاذة تخلصنا منه، ويتبقى تمكين العقول الواعية في الشأن الديني، وهذه مواءمة مطلوبة بل وتفرضها ضرورات التحولات، وهي ظروف تقتضي غض الطرف عن كثير من (الشخصنة)، التي قد لا ينجح كل أحد في التخلص منها بسهولة..

الرياح الثقافية تهب علينا ليل نهار، ومن الشرق والغرب، وليس أمام العقلاء ـ في تصورهم ـ إلا أن يكونوا بين البينين: إما فتح الباب لها؛ وعندها سيكون من فتحه (مخدوعا ومفتونا)، أو أن يقوم بغلق الباب، وعندها سيعيش من أغلقه (وحيدا وغريبا)؛ مع أن هناك بينا آخرا مطلوبا، ولكنه ضاع وسط الضائعات، وهو (إعادة الثقة) في النفوس، وفي الحضارة الحادثة، مع الانتباه الكامل من سطوة الماديات، وسطوة التهافت عليها، والحذر من نسيان (الوقايات والمصدات) التي من شأنها المحافظة على الجذور، وعلى صيانة العقول من التسطيح، وعلى الوعي من التزييف، مع الجمع بين شؤون الدنيا والدين، دون انفصام، أو تضاد..

العقول، وفي هذه الفترة بالذات، تحتاج إلى صياغة ثقافتها صياغة دينية رفيعة، تكشف للناس عظمة دينهم، وحيوية شريعتهم، وأنه دين يجمع لهم بين الدنيا والآخرة، وغير ذلك إفلاس، وتنكر للأخلاقيات، وتقطيع للأواصر، وتأجيل للمشاريع النهضوية المختلفة؛ لأن أي إغفال للدين وللتراث هو بمثابة السقوط في المزالق والهاويات، وعدم احترام أو تقدير للتبدلات وللتحولات وللمتغيرات وللمستجدات، وهذا في نفس الوقت لا يعني أن نقيد أنفسنا بما لا يريحنا، أو نغلق باب الحوار والمراجعة..

الحوارات والمراجعات تكون مقبولة عندما يتصدر لها المؤهل والغيور والجدير بالثقة، والمستوعب للخلافات والصراعات، والمنفتح على الآخرين، وغير الدعي، وغير الجريء على الثوابت، وغير الظان بأن الدنيا هي محور الحياة، وأنه لا آخرة تنتظر المسيئين، من جنس الذين يريدون إنتاج تراث وشريعة يناسبان ما يدعون إليه، متناسين أن الحياة وإن كنا نتفق أنها في حاجة إلى (تجديد)؛ إلا أن هذا التجديد اللازم لا بد أن يكون محافظا على استبقاء الأصول والثوابت القطعية، ولا مانع من الاجتهادات، شريطة أن تكون منضبطة بالعقل وبالنقل، وليس بغرض الهدم والتبديد؛ فهذا لن ينتج إلا المسخ والمشوه، من القيم والناس.