قبل ما يزيد عن سبعين عاما، وبعض الدول العربية ما زال تحت الاستعمار، أرسل ساطع الحصري إلى جوليان هكسلي مدير اليونيسكو رداً على ما كتبه هكسلي عن البلاد العربية في التقرير الذي رفعه إلى مؤتمر اليونيسكو الثالث، متضمناً رؤيته للشرق الأدنى باعتبار تركيا وإيران والأفغان مع البلاد العربية تستحق مكتبا إقليميا واحدا، (لاحظ تركيا وإيران كأنها مركز والباقي هامش يتم إجماله بكلمة بلاد عربية)، يقول ساطع الحصري مستنكراً ذكر تركيا وإيران واعتبار البلاد العربية هامشا، قال الحصري قبل سبعة عقود رداً على هذه الرؤية: (لا بد أنكم تعرفون جيداً عزيزي هكسلي أن بلاد المكسيك والأرجنتين مثلاً، قريبتان جداً من إسبانيا من الوجهة الثقافية، بالرغم من عظم المسافات التي تفصل بينهما، في حين أنه بعكس ذلك، مدينة دوفر الإنجليزية بعيدة جداً عن مدينة كاليه الفرنسية من الوجهة الثقافية، بالرغم من القنال الذي يقربهما، وعلى هذا الأساس يجب أن تسلموا معي أن سورية من الوجهة الثقافية أقرب إلى تونس منها إلى تركيا، والعراق أكثر جواراً من مراكش منه إلى إيران) راجع كتاب ساطع الحصري (آراء وأحاديث في العلم والأخلاق والثقافة) ص 113، وينسب إليه أيضاً قوله: (إذا كان العرب يعزون الآن إلى مبدأ الاستقلال الثقافي قيمة كبيرة جداً، فما ذلك إلا لأن ثقافتهم قاست كثيراً ــ ولا تزال تقاسي كثيراً ـــ من الحكم الأجنبي ومن مداخلاته الكثيرة)، حيث كان العرب في الدولة العثمانية يعانون من أن المكاتبات الرسمية باللغة التركية، وبعد الأتراك جاءت لغات المستعمرين الجدد حيث إن كتاب ساطع الحصري المشار إليه صدر عام 1951 وبعض الدول العربية مستعمرة. هل هذه فاتحة مقال يحاول استعادة (القومية العربية)؟ بالتأكيد لا، فالزمن تجاوزها إلى عولمة تجعل بعض الشعراء الشعبيين يطعم قصيدته بمفردات إنجليزية!؟، لكن مبادئ القومية العربية على المستوى الثقافي (لا زالت قائمة) رغم فشلها الذريع والمزري على المستوى السياسي، أما دعوى (الأممية الإسلامية) فها نحن نعيشها تحت غطاء من (الشعوبية الفجة) لمن يرضى أن يكون ذيلاً لفارس أو تركيا (اللتين لن تتخليا عن لغتيهما القوميتين مهما رعيا من مسابقات في حفظ القرآن الكريم)، فالنزعة للقومية الفارسية في رأس العمامة الإيرانية أعز وأقرب وأكثر غيرة في قلب الملالي من أي نزعة إسلامية، وكذلك يرى الأتراك في لغتهم وقوميتهم مهما استخف السياسيون الفرس والترك بعضاً من (الرعاع العرب) بتلاوة من القرآن الكريم يختمونها بصدق الله العظيم، ثم يستكملون ما بعدها بلغتهم القومية التي تخصهم وتخص مكتسبات قومهم سواءً أكانوا (فرساً أو أتراك).

القومية العربية لا تحتاج إلى (إحياء) فهي حية في قلب كل عربي يطرب لشطر بيت من قصائد المتنبي، لكنها تحتاج إلى احترام وتقدير فلا نستنزفها في (أيديولوجيا سياسية) فما دخلت (السياسة الديماغوجية) في شيء إلا فقد نبالته وسموه، وأصبح مطية لا يصف حال واقعها الفج كما وصفها الشاعر العراقي (مظفر النواب).

(القومية العربية) واقع ثقافي حقيقي تؤكده الخصومات (العربية العربية) ولا تنفيه، بينما (الأممية الإسلامية) واقع سياسي يستثمره (العجم) في (مؤتمر غروزني) لإضعاف العرب من المحيط إلى الخليج، ولتجد كثيراً من (رجال الدين) العرب وقد انساقوا إلى (مؤتمر الضرار) هذا غافلين عن تاريخ زعامة عربية من قلب الجزيرة العربية آمن بمواقفها الصادقة كل العرب المنصفين بكل توجهاتهم الروحية لتجد مع كل اسم حكاية، من أمين الريحاني إلى سلطان الأطرش إلى قائمة طويلة يعرفها الدارسون للسياسة في الشرق الأوسط عموماً والوطن العربي خصوصاً، ليجعلوا (الملك عبدالعزيز آل سعود) من أهم الشخصيات السياسية خلال المائة سنة الماضية.


المملكة العربية السعودية لم تحصل على اعترافها الدولي لأسباب (عقائدية مذهبية) بل لأسباب سياسية صنعها الملك عبدالعزيز على الأرض، جمعت الشافعي مع الحنبلي مع الاثني عشري مع الحنفي مع الإسماعيلي مع الصوفي مع السلفي تحت راية ملكية واحدة، في نظام ملكي يتطور دائماً وأبداً، بدأ مجلس الوزراء فيه قبل عام 1373هـ بأربعة وزراء، كان فيها الأمير سعود بن عبدالعزيز آل سعود (رئيساً لمجلس الوزراء) وصولاً لما نحن فيه مما يزيد عن عشرين وزارة وغيرها من هيئات ومجالس، والمزايدون على استحالة تطور الهيكلة السياسية لا يدركون أن الخلاف مع دعاة التطوير السياسي ممن قضوا نحبهم رحمهم الله ومن بقوا أحياء عافاهم الله، ليس خلافاً على (التطوير) بل خلاف على الطريقة والتوقيت فقط، فالتغيرات السعودية تخضع لعاملين (داخلي، خارجي) فقد تأتي فكرة (تطوير) في شأن من الشؤون (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية.. الخ) مناسبة تماماً على المستوى الداخلي، لكن (الواقع الدولي الخارجي) لا يتناسب مع هذا، أو العكس، ولنضرب مثلاً بالقومية العربية، فالاندفاع مع هذه القومية في الفترة (الناصرية) انتحار سياسي، ومثلها الاندفاع مع (الأممية الإسلامية) في الفترة (التركية الفارسية الإخوانية) انتحار سياسي، وعليه فالمستقبل بشكل موجز وفق التلاعب الحاصل في المنطقة ما بين المفاهيم (القومية، الشعوبية، الأممية) والأزمات (السياسية، الاقتصادية) وانسحاب أمريكا التدريجي من المنطقة وصراع محاولة ملء الفراغ وفق ثلاثة أنواع من اللاعبين (إستراتيجيون وتمثلهم روسيا والصين، نصف إستراتيجيين وتمثلهم إيران وتركيا، وتكتيكيون ويمثلهم كل الدول العربية) بحكم واقع الحال بأن الفراغ السياسي واقع في أرضهم، ولهذا كان لأول حديثي في أول المقال عن (القومية العربية) ما يؤدي إليه في نهاية المقال، والإشكال ليس مع روسيا والصين بقدر ما هو مع تركيا وإيران، وعليه فوجود جمهورية مصر العربية ضمن معادلات المنطقة في المستقبل القريب يعتبر خياراً إستراتيجياً لا يعادله شيء، فهي الشريك العربي (المرموق) الموثوق به في كل الملفات العربية العالقة وما زالت ساخنة حتى هذه اللحظة في المشرق العربي، مع التكافل المطلوب بالوقوف معها فيما يخص قضايا (المغرب العربي وإفريقيا).