أصل عنوان هذا المقال اسم لكتاب نشرته قبل أكثر من عشر سنوات حين بدأ اشتدادُ الحملة العالمية على الأخلاقِ والقِيَمِ والأُسرةِ وسلطانِها الفِطري في جميع المجتمعات، وتنوع الحِراك الدولي المؤسسي لتدمير المرأة والطفل؛ وقد أصبح جليًا ومنذ ذلك التاريخ أن دُوَل العالم إلا ماشاء الله، مجتمعةً أو متفرقةً، لن تستطيع أيٌ منها الصمودَ التام أو الصمودَ الأمثل، أو لنقل: الصمود الذي تشعر أنه ينبغي عليها أن تقوم به في مواجهة التآمر العالمي ضد الأخلاق والقِيَم، والذي قادتُه الكثير من أَزِمَّة التغيير في العالم، الأَزِمَّة السياسية والمالية والعسكرية والإعلامية، والتي بدأ تفعيلها إثر تغير فلسفة الحكم في أوروبا من دينية [ثيوقراطية] إلى علمانية بدءًا بالثورة الإنجليزية حيث نفضت السلطات يدها تدريجيًّا عن المسؤوليات عن القيم لتحل محلها الأهواءُ المتعطشة لمخالفة الفطرةِ والأديانِ والمشتركاتِ الإنسانية؛ وشاء الله أن تستولي هذه الدول على معظمِ دول العالم لتُعجل فيها من حركة الانهيار الأخلاقي لنقف بعد عقود أمامَ ما هو حاصل اليوم من الدفع نحو الانحلال القيمي عبر المواثيق الدولية كاتفاقية السيدات ومؤتمرات المرأة والسكان، وكثير من قرارات الأمم المتحدة ومؤسساتها وكبريات دولها، وكذلك عبر وسائط الإعلام التي كانت قبل سنين تنحصر في مَجَلَّات ومحطات متخصصة بالفساد الأخلاقي، لكنها اليوم وبدعم مؤسسي دولي شملت معظم الوسائط الإعلامية المؤسسية والاجتماعية حتى لكأن العالم بأسره متحالف لهدم الأخلاق والقِيم، فالجميع يعمل على نشر مفهوم للحرية يتناقض مع الفطرة والجِبِلَّة الإنسانية في مسعى ضخم وغير معهود في التاريخ لتغيير القيم الإنسانية بأكملها واستبدالها بقيم شيطانية لا عهد للبشر بها، وقد حققت القوى الداعمة لهذا المشروع نجاحًا خطيرًا لم يصل لمنتهاه حتى اليوم رغم تسابق الدول بل والمرجعيات الدينية في الغرب وبعض ديانات الشرق على استرضاء هذه الحملة بإباحة أقذر العلاقات المحرمة وتمرير أنماط من الحياة تثير اشمئزاز ذوي الفِطر الراقية، وهم الآن في الطريق لتطبيع أشكال أُخر من الشذوذ أبى قلمي التعبير عنها وأظن الكثير يعرفون ما أقصد.

وما زالت الدول الإسلامية أو من يُشكل المسلمون فيها نسبة كبيرة لا تزال في الجملة الأكثر محافظة أخلاقياً وتماسكًا قِيَميًا على تفاوت كبير بينها، رغم ما مر على أكثرها من ظروف الاستعمار والدفع العالمي بها نحو التغيير القِيَمِي؛ وسَبَبُ ذلك أن الإسلام هو الدين الأوحد من بين جميع العقائد والنِّحَل الحية على وجه الأرض الذي يقف بقوة مع تعزيز الأخلاق والمُثُل والقِّيم التي تدعو إليها الفطرة الإنسانية، ويتصدى بقوة أيضًا وكذلك بحساسية دقيقة لكل توجه من شأنه أن يُوصِل إلى التفريط ولو بقيمة إنسانية واحدة ؛ فما بالك بما يؤدي لانهيار المنظومة الأخلاقية بشكل كامل، لذلك كما قدمت مازال المسلمون في معركة القِيَم العالمية والأخلاق هم الأكثر صلابة رغم شراسة تحالف مؤسسات العالم على هذه المنظومة بأسرها، سواءً أكانت منتظمةً على أصولٍ دينية كما عند المسلمين،أم منتظمةً على أُسُسٍ فطرية أو تقليدية.

وذلك على عكس الأديان الأخرى فإن وقوفها إلى جانب الأخلاق لا يتجاوز حد الموافقة عليها، فهي تُوَافِق على المنظومة الأخلاقية لكنها لا تدعمها إلَّا قليلا،وقليلاً كذلك ما تضع التدابير المؤدية لانتشارها أو الحائلة دون سقوطها.


فمثلا الديانات الأشهر في العالم اليوم، كُلُْها تُوافق على تحريم الزنا، لكن النصوص التي تُحَذِّر منه قليلة في كل ديانة، وإنما تكتفي بما هو معهود عند الجميع وبالنصوص التي تضع عقوبات على ممارسته باعتباره جريمة؛ لكن الإسلام يزيد على ذلك بأنه ينظر إليه كعامل أساس في هدم جميع المنظومة الأخلاقية في المجتمع الذي تشيع فيه هذه الجريمة، لذلك كثرت النصوص في الكتاب والسنة في التحذير منها تارة بالنهي المباشر كقوله تعالى {ولا تقربوا الزنا} وتارة بالتأكيد على أن التنزه منها من صفات أهل الجنة الصالحين، كقوله تعالى: {والحافظين فروجهم والحافظات} هذا سوى ذكر عقوبتها في الدنيا {والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} وذكر عقوبتها في الأخرة {ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة}

هذا سوى النصوص الكثيرة مما ورد في السنة بجميع درجاتها ومصنفاتها، الأمر الذي رفع من بشاعة هذا الأمر في النفس المسلمة، وجعلها أكثر استحضاراً لخطورته في صياغة عاداتها وأعرافها وآدابها.

كما لم يتوقف الإسلام في هذه الجريمة عند هذا الحد؛ بل شرع الكثير من الشرائع التي شَكَّلَت جانبا كبيرًا من صورة المجتمع المسلم لحِكَمٍ عديدة من أعظمها الحيلولة دون وقوع الإنسان في هذه الرذيلة، فَشَرَع غضَّ البصر والحجابَ والقرارَ في البيوت والفصلَ بين الجنسين، والحديثَ بينهما فوق الحاجة، وحرَّم الخلوةَ والسفرَ الطويل دون محرم،وزواجَ المُتعة، وأوجب الولايةَ والشهودَ في النكاح، وقرر للمرأة حقها في ولاية الرجل عليها.

هذه التدابير الواقية من الزنا مثال للأحكام الشرعية الكثيرة التي أكسبت المجتمعات الإسلامية صلابة أكبر من غيرها في مواجهة حملات تدمير الأخلاق.

وهذا رُبَّما يُقَرِّب لنا الحكمة من كون الإسلام لم يُخَاطِب الحُكَّام في جميع هذه التشريعات مع إجماع العلماء على مسؤوليتهم العامة في حفظها ؛ وإنما خاطب المكلفين مباشرة، وذلك لأن الحاكم قد تضطره مقتضيات السياسة أو أي ظرف آخر إلى خفض مستوى مسؤولياته عن الحفاظ على القِيَم والأخلاق، فعندها لا يبقى المجتمع المسلم مكشوفًا أمام دُعَاة الانحراف القِيَمِي من داخله أو من خارجه، وإنما يَلْتَفِت إلى الخطاب العريض الذي وجهه إليه الشارع الحكيم باعتباره المسؤول الأول عن الحفاظ على القِيَم لا باعتبارها فطرةً موروثة وحسب ؛بل باعتبارها ديناً لا يُلْغِي عدمُ قيام الحُكَّام بأطْرِ الناس عليه لزومَ التكليف الإلهي به.

وضعف شعور الناس بمسؤوليتهم عن الحفاظ على أحكام الشريعة التي خوطبوا بها تعود إلى أمور منها ضعف فهم الخطاب الشرعي في الآيات والأحاديث التي ركزت على هذه المسؤولية كقوله تعالى في سورة العصر: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} فجعلت الآيةُ مهمة إشاعة الإيمان والعمل مهمة المجتمع بأفراده، عبر منهج التواصي، ويدخل فيه أَشْكَال من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه هي المسؤولية المجتمعية؛وكذلك قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نوحًا وَالَّذي أَوحَينا إِلَيكَ وَما وَصَّينا بِهِ إِبراهيمَ وَموسى وَعيسى أَن أَقيمُوا الدّينَ وَلا تَتَفَرَّقوا فيهِ﴾ [الشورى: ١٣] فالتكليف بإقامة الدين من لدن نوج حتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم منوطة أولًا بالأمة أفرادًا وجماعات.

وكل ذلك يدعو العلماء والوعاظ والدعاة إلى العمل على تعزيز مشاعر المسؤولية عن الأخلاق والقِيَم في نفوس الناس من منطلق قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع ومسؤول عن رعيته) لأن اعتياد الناس على إلقاء المسؤولية عن تلك على الدولة ليس سوى عمل بجزء من الحديث وهو (فالإمام راع ومسؤول عن رعيته) وترك الباقي وهو (فالرجل راع..والمرأة راعية..).

وكما أن ضعف المجتمعات المسلمة عن مسؤوليتها في حماية القِيَم تَجبُرُه قوة السلطان كما قال عمر رضي الله عنه: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» فإن الوازع القرآني والنبوي يظل هو الأقوى تأثيرًا حال وجوده، ولهذا فالمسؤولية المجتمعية هي هذا الوازع لا غير.

وبتنمية هذا الوازع تسقط دعاوى المتشائمين الذين يتباكون بشكل مُفْرِط على الأخلاق والقِيَم كلما رأوا مظهرًا مزعجًا من مظاهر التراخي الأخلاقي، إذ مَرَد هذا التباكي ضعف المعرفة بمناطات المسؤولية في الشريعة الإسلامية، أو ضعف الهمة للعمل لبناء الشعور بهذه المسؤولية بين الناس، وهو تفسير عَمَلِي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال هلك الناس فهو أهُلَكَهُم) برواية فتح الكاف في أهلكهم، لأن هذا القائل أدى به تَذَمُّرُه إلى الشعور بالإحباط وترك واجبه في الإصلاح بحجة اليأس من حال الناس مما يؤدي إلى هلاكهم على الحقيقة، وكذلك على رواية فتح الكاف [أهلكُهُم] لأن من يَشْغل نفسه بالتذمر وتثبيط الناس وإيقاعهم في اليأس هو أحق الناس بوصف الهلاك.

وأسوأ من هؤلاء من يتصور أن نشر البكائيات على ما يحدث جزء من عمل الإصلاح، وهذا من تسويل الشيطان؛ بل هو من إشاعة الفاحشة وتهوين استمراء المنكر.

ولعل آخر وأهم ما أنهي به المقالة: حث كل صاحب كلمه مقروءة أو مسموعة أن يشتغل على توطيد مشاعر المسؤولية الدينية لدى القر في ظل عالم اليوم المنتفظ بقسوة على كل ما يَمُت للأخلاق والقيم بصلة.