بدأنا وإخوتي ووالدتي في مداواته ومتابعته على مدار الدقيقة، كان التحسن بطيئًا جدًا، حتى جاء صباح الجمعة التالي بدت أنفاسه سريعة قررنا حينها الذهاب سريعًا للمستشفى، تجمع عليه الأطباء وقرروا الذهاب به إلى غرفة العناية المركزة. في تلك الغرفة التي يرقد فيها والدي، كان هادئًا رغم آلامه، كان يسألني: هل كتبت مقال الأسبوع؟ كان حريصًا على قراءة مقالاتي والتعليق عليها، كان يدعو الله بالتوفيق للطاقم الطبي وهو مرتديًا كمامة الأوكسجين. لم أكن أتصور بأن هذا الرجل الذي يهتم بصحته جيدًا أن أراه ولأول مرة في حياتي ممددًا ومنطويًا على الفراش الأبيض. كنت أتمنى لو أنني حملت كل آلام جسده. والدي الذي يعطي لهذه الحياة معناها، الذي ما أزال أستشعر طفولتي في حضرة حضنه ورحمته، صديقي وحبيبي الذي علمني القراءة والمعرفة وأدب الحوار. سندي وظهري ولربما هو الرجل الوحيد الذي أحبني محبة خالصة بلا شكوى أو تذمر أو عتاب أو انتقاص، أحبني لأنني أنا، وأحبني رغم أنني أنا، هذا القلب الذي ينبض مرة لي ومرة له، ليحيا ويحييني معه.
لم تنتظم أنفاس والدي ولم ينتظم معها إيقاع الحياة فتذكرت بأنه يجب علي اختبار هذه التجربة كفرصة للتطور واختبار السلام في هذه الرحلة الأرضية تمامًا كسكون البحر الذي لا يتأثر بموجاته العالية أو المنخفضة. تحصلت على فرصة اختبار هذه التجربة مع الاستمرار في التعامل معها كتجربة، حتى جاء يوم الجمعة قرر الأطباء وضع التنفس الصناعي والتخدير الكامل وكأنه شاعر بأن النهاية الحتمية لا مفر منها سلم علينا وودعنا ونام حتى جاء فجر الجمعة الأخير فارقت روحه الطاهرة الحياة وصعدت تلك الروح الطيبة إلى بارئها.
ومن الفضائل أن والدي توفي في المدينة المنورة بجوار الرسول الكريم في بقيع الغرقد وفي الأحاديث أن مقبرة البقيع أفضل وأعظم مقبرة، ولا يماثلُها مقبرة أخرى في هذه الدنيا.... رحماك يا ربي في روح أبي..