جئتها عشرات المرات. كانت حالمة كالعواصم الأوروبية التي أتردد عليها. لها عدة وجوه. أحدهم يحكي عن طبقة ارستقراطية. وآخر يُبرز أيام الدمار والحرب التي مرت عليها.

حين أرادت إسرائيل إخراج ياسر عرفات ومن معه من أراضيها. كثير من المباني الشاهقة تشهد على قصف طائرات سلاح الجو الإسرائيلي، ونيران الفصائل اللبنانية التي واجهت أخرى فلسطينية خلال الحرب الأهلية، التي أعادت الدولة عقودا إلى الوراء.

وفي جزء آخر، كانت رائحة رفيق الحريري تفوح من «سوليدير بيروت»، الذي يتفوق في أزقته على أجمل المدن في العالم.

ربما أكون حزينا على تلك العاصمة أكثر من اللازم، كوني حبيسا للذكريات التي عشتها في تلك البقعة، حيث الإعلام الذي كُنت مولعا به، متمثلا في جبران تويني. طبعا ليس من جبران الإعلام وجبران «النهار» شيئا من جبران السياسة، المعروف بالتلون والحزبية والمساومة على الدولة بمن فيها.

إنها لبنان التي قال عنها الأخ غسان شربل، الأسبوع الماضي، في «الشرق الأوسط»: «لم تكُن كلمة الجوع حاضرة في قاموس اللبنانيين. كان الفقر حاضرا، لكن الجوع لم ينجح في تلك الأيام في طرق الأبواب والتسلل إلى بيروت. بعد عقود من المراهقة والمغامرات والتلاعب بما تبقى من أسس الدولة، جاء الجوع ونصَب خيامه، واستحكم، وتحكّم».

شعرت بالحسرة التي يعنيها الرجل، حتى وإن كنت لستُ من أبناء جلدته، وإن كان هو بعيدا عن بلاده لعقود، إلا أن العاطفة تسيطر عليّ، ويتحكم به إحساس المواطنة ولو من بعيد، وبذكرياته، والماضي والمستقبل المجهول. وأجزم أن ذلك الإحساس يتحكم في مصير أبنائه البعيدين عن الدولة الأم، التي قد يجهلون لونها ورائحتها؛ كونهم نشأوا في مُدن ليس لها من الواقع اللبناني أكثر من متجر يبيع صفيحة لحم بالعجين، أو تبولة تقليدية في شكلها، لا النكهة ولا الطعم.

فالإحباط الذي قد يُسيطر على إنسانٍ ما في هذه الأرض الفسيحة ليس كما ذلك الذي يُعبّر عمّا في مكنون من فُرض عليه مغادرة من يُحب مُرغما غير راغب، وهذه أتصور حالة غسان وملايين من اللبنانيين المُغتربين، ليس نقصا في الوطنية، إنما هربا من الواقع الأليم في بلادهم، ويُمكن هربا من تسلل الجوع، لا الفقر، مع الوقت.

فحالة المراهنات السياسية، التي تتحكم في دولة كلبنان، لفظت ملايين من الشرفاء من أبنائها، وهي من تتحمل المسؤولية التاريخية عن أي تغييرٍ في الحالة الوطنية، التي قد تسكن نفوس من أُجبر ذووهم على الرحيل من بلادهم، وهنا أقصد الجيل المقبل من اللبنانيين الذين ترعرعوا بعيدا عن بلادهم. وأخشى أن يكون ذلك هدفا ضمن أهداف المشروع بعيد المدى الذي تسعى لتنفيذه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتطبقه على أرض الواقع من خلال «حزب الله»، السياسي بالشكل، والمتطرف في المضمون. فمثل هذا المشروع، الذي استطاع استدراج جزء عربي للخروج عن نص الإجماع، لا يُمكن أن يتم دون متواطئين أو ما تنطبق عليهم تسمية «خونة» تجاوزوا أقصى حدود الأمانة والإخلاص إلى النقيض من الأمر.

والأهم من فكرة الانقياد والطاعة هي القناعة القائمة على تدني القيمة الوطنية، فإن اقتنع طرف ما في تلك الدولة بمشروع خارجي يضرب الوطنية، واندفع لحشد التابعين والمؤيدين من أوساط الجوعى والمعوزين، فذلك بالمعنى الواضح اسمه «تغيير للديمغرافية» التي يجب أن تكون ذات ارتباطات عربية لا فارسية، وهذا يعني انقلابا على القيم والأخلاقيات والأسس العربية التي من المفترض أن يلتزم بها أي شخص موصوف بـ«اللبناني العربي»، وليس ذلك الميّال للهوى الفارسي.

أُلامُ كثيرا من بعض الأصدقاء نظير التعمق في الملف اللبناني، وهو الذي بالتأكيد لن يؤثر فيّ كمواطن ينعم بأقصى حدود النعم والأمان في عاصمة بلادي الكبيرة (الرياض)، بقدر ما هو ملف يحمل في أركانه الكثير من الخبايا والحواديت والقصص، وربما رائحة الدماء والبارود.

و إذا نظرت له بأعين كثير من الأصدقاء اللبنانيين، أجد أن المواطنة اللبنانية الحقّة، التي ستنعكس على الدولة بالولاء والوفاء، يصعب تحقيقها والتفكير بها بعد أن أحدث «حزب الله» شرخا كبيرا في شكل الدولة، وعددها وعديدها، ومضمونها التاريخي، والعمل جارٍ على تحوير المستقبل وتغيير بوصلته من جهة إلى أخرى.

إن المواطن المُزيّف، الذي يبحث عنه الحزب المتطرف والمنزوي في مشروعٍ إرهابي كبير، ولا يخجل من التبعية والانبطاح له، حتما لن يكون حقيقة مُخلصا لبلاده، سواء كان في محيطها أم مغتربا كغسان، إنما لا محالة سيكون أجيرا رخيصا بخس الثمن، يُمكن أن يتلون بمجرد مخاطبته بلغة التهديد والوعيد، أو بحفنة من المال السياسي الذي يعيش عليه حسن نصرالله وأتباعه من الخونة في لبنان.

رُحتُ أُقلب في دفتر الماضي، وصور الأزقة والشوارع، والمناطق التي يصدح في ردهاتها صوت «فيروز» منذُ الصباح الباكر، وأُصبت بحالة من خيبة الأمل، إذ كنت أتردد على تلك الدولة كثيرا إبان عملي مديرا لتحرير الشؤون السياسية في هذه الصحيفة التي منحتني كُل شيء، ودفعتني دفعا للدخول في الدهاليز اللبنانية بغطاء سياسي وأمني، قدمه ليّ الأخ الأكبر علي عواض عسيري، الذي كان وقتها سفيرا للمملكة في بيروت، إلى أن وقعت بنفسي في فخ قضايا ودعاوى حزب الله «الإرهابي» القانونية، باعتباره المتحكم في مفاصل الدولة، وبتُ أخشى الذهاب بلا عودة خلال رحلة بحثٍ عن الحقيقة الواضحة ليست الغائبة.

حينها أيقنت أن الروح أغلى من كل شيء، وتحولت إلى مراقب خارج الحدود.

تمخضت تلك التجربة عن تحكّم عاطفتي في التعامل مع الإنسان، الحاضر والهارب، في دولة اسمها «لبنان»، فصرت أنبذُ كل زهيدٍ يسهل انقلابه على الأوطان، يُشترى بأرخص الأثمان، كالذي قال إن ابنه البكر قُتل على إحدى الجبهات، للدفاع عن الأوطان، والرواية، التي لا تقبل القسمة على اثنين، أنه اختلف مع شخص أو شخصين بسبب سيدة أو سيدتين، لتخرج الرواية بأنه يواجه «العدوان»، وهو في الحقيقة «سهران».

بيروت.. مدينة الأحلام، والتهور، والقصائد، والأغاني، والفكر، واللوحات، والفنون، ومنصة النظر إلى شروق الشمس، والغروب، تلك التي وصفها من أخاطبه، وأسير على رسله في هذا المقال بالشرفة، وبائعة الأسئلة والفرح، قد تحولت بصورها وبورتريهاتها الجميلة يا غسان إلى «حارة حريكان»، فأنس لبنان التي تعرف يا صديقي.