أنهى المحتسب الشاب أذان الفجر في المسجد الذي يعمل فيه مؤذنا راتبا، وأغلق مكبرات الصوت، وفتح الخزانة الخاصة بأجهزة الصوت والتي كانت تحوي مع الأجهزة بعض المصاحف التالفة والكتب المغبرة، وأخرج منها قضيبًا من حديدٍ سميكٍ بطول مترٍ تقريبًا، أمسك بالقضيب الحديدي، وجلس على الجدار القصير الذي يسند عليه المصلون ظهورهم بعد أداء النافلة وأثناء انتظار الصلاة وبعدها، كان جلوسه على ذلك الجدار خروجًا من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحد المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين»، وعلى الرغم من أن فعله هو جلوس في الحقيقة، لكن كانت هذه هي أفكار القوم وطريقتهم في التحايل على النصوص والالتفاف من خلفها، وأثناء تمتمته بأوراده، طاف بنظره متفحصًا السماعات الجديدة على الأعمدة الخرسانية في المسجد، والتي لم توصل بالكهرباء بعد، ثم ألقى نظرة على جهاز «الصدى» ولاقط الصوت الجديدين فوق خزانة أجهزة الصوت، وحوَّل بصره على ست علب بجواره، تحوي سماعاتٍ خارجيةٍ جديدةٍ وكبيرةٍ، أربع منها للمنارة، واثنتان مخصصتان للفناء الخارجي للمسجد، وبحركة تلقائية من دون قصد تحسس الفاتورة وبقية المبلغ في جيبه والذي تم تأمينه من أحد المحسنين من جماعة المسجد، وطاف في خياله الاعتراض الشديد للمتبرع على سعر اللاقط الذي جاوز ألفي ريال وقتها، واستطاع صاحبنا التحايل على هذا الاعتراض برفع تقدير أسعار الأجهزة الأخرى لتغطية التكلفة الإجمالية. كان صاحبنا المؤذن المحتسب قد اتفق مع «الحضرمي» الشهير والماهر بتركيب السماعات، ووزن أجهزة الصوت وأجهزة تحسين الصوت وتفخيمه، على القيام بالعمل على تركيب ووزن الأجهزة الجديدة في مسجده، و«الحضرمي» هذا كان يستجلبه مشاهير القراء في الرياض والقصيم؛ لضبط أجهزة الصوت في المساجد والجوامع التي يؤمونها قبيل شهر رمضان المبارك، ونظرًا لازدحام جدول أعماله؛ لقرب رمضان الموسم الأهم له ولعمله التجاري، لم يعر صاحبنا أي اهتمام، إلا بعد وساطة أحد أشهر القراء في مدينته، وتقديرًا لهذه الوساطة تكرم «الحضرمي» بإعطاء صاحبنا موعدًا على هامش الوقت والأعمال، ولكن بضعف الثمن، وأن يشتري البضاعة من محله، وعلى أن يتم العمل على مرحلتين، الأولى في وقت متأخر من الليل لتركيب السماعات، والثاني بعد الفجر مباشرة لوزن الصوت، بحكم ارتباط «الحضرمي» بمواعيد أخرى في كلٍ من الزلفي والغاط والمجمعة، قبل الذهاب إلى الرياض، حيث الكعكة الأكبر. كان عمله في مساجد وجوامع المدن والمحافظات المختلفة عبارة عن وزن أجهزة الصدى ومفخمات الصوت لا غير، وكان يجني من وراء ذلك مبالغ مجزية.

وكان صاحبنا، في رمضاناتٍ مضت، لا يؤذن ولا يصلي في مسجده صلاتي العشاء والتراويح، بل يذهب باكرًا قبل أذان العشاء ليحجز مكانًا قصيًا من الصف الأول في جامع القارئ الشهير الذي تعرف عليه لاحقًا، وتوطدت العلاقة بينهما، كان مكانه المفضل، قبل نهاية الصف الأول من اليسار، بمواجهة إحدى السماعات، التي تصم آذان الآخرين غير المهووسين بقراءة ذلك الإمام حسن الصوت، وبعد سنوات من هذا الحضور الملفت لصاحبنا مع القارئ الشهير، تسنم مهمة إمامة المصلين في صلاة العشاء وصلاتي التراويح والقيام في مسجده الذي يؤذن فيه لضعفٍ صحي طرأ على الإمام الراتب، ومن يومها حُرِم صاحبنا من سماع قارئه المفضل بشكل مباشر، ولكنه لم يُحرم من متعة تقليده بشكل فجٍّ مبالغ فيه، أثناء إمامته للناس.

أنهى صاحبنا أوراده وخيالاته، والتقط القضيب الحديدي، وخرج ليمارس احتسابًا بدأ ينتشر مؤخرًا في أحياء المدينة المطمئنة في هجعة الليل وهدوء الفجر، واستلم المحتسب بقضيبه الحديدي أول عمود نور قابله بعد خروجه من المسجد، وطرقه بعنف وعنفوان وكأن بينهما ثأرًا أو دمًا، ثم انتقل للعمود الثاني والثالث والرابع، حتى أنهى الطرق على كل أعمدة الشارع، ولم يكن يهدأ دوي صوت العمود حتى يستأنف الضرب على العمود الآخر، وعلى الرغم من سماعه بكاءات الصغار، وحنق بعض سكَّان الشقق من الأشقاء العرب، إلا أن هذا لم يكن ليثنيه عن احتسابه المزعج، وبعد أن ينتهي من أعمدة النور، سيكون للقضيب الحديدي مهمة أخرى، وهي الطرق على أبواب الغرف بعد مداهمة البيوت الشعبية التي تقطنها العمالة الآسيوية، فيقتحمها صاحبنا ويبدأ بالطرق الشديد على أبواب الغرف لإيقاظ العمالة للصلاة، كان يطرق جميع الأبواب ما عدا باب غرفة «أختر» الذي خرج عليه ذات فجر، وكاد أن يفتك به لو لا تدخل أصدقاء «أختر» وزملاؤه في الغرف المجاورة.

أحدهم، داعب صاحبنا ذات يوم، قائلًا له: «لم تُقرع أجراسُ كنيستك العشر هذا الصباح، أتمنى أن يكون المانع خيرًا، أم أن دفء الفراش هزمك هذه المرة أيضًا»، فأشاح صاحبنا بوجهه عنه، وهو يعرف جيدًا أن هذا الشخص يعرفه حق المعرفة، ولن يستطيع مجابهته في جدال.

أنهى صاحبنا عادته الاحتسابية تلك بعد أن قام المحسن الذي يتكفل بالمسجد وحاجاته، بإسكان جزء من عمالته في سكن «أختر»، وطلب إلى صاحبنا عدم إزعاج العمَّال أثناء نومهم، وحتى يحفظ ماء وجهه، اشترط عليه أن يتعهد بأدائهم للصلاة في وقتها ولو في غرفهم، فكفل له المحسن ذلك، وقال له المحسن: أنا كثير السفر، ومن الآن ستتواصل مع المحاسب السوداني، لاستلام المبالغ الشهرية المخصصة للأسر الفقيرة، حسب المعتاد.

وفي أول لقاء مع المحاسب، طلب المحاسب إليه طلبًا صغيرًا: «مش ترحمنا يا زول من إزعاج كل فجر»، ومن يومها توقف قرع الأجراس، تدريجيًا، وبدأ الناس في الحي يستمتعون ويستشعرون قول المؤذن: «الصلاة خير من النوم».

أخيرًا، لم يكن التشدد والتزمت يومًا لشرع الله -عز وجل- فيه نصيب.