عندما تمر وفي ذروة انشغالك على الجمال، هل تتوقف لتستمتع؟ هل تدرك أنك أمام عمل إبداعي يشدك كي تتوقف وتنتبه إليه؟ حقًا ما هي مكانة الجمال في إطار براغماتية حياتنا اليومية؟ داخل دوائر الحياة المتسارعة وما بين عقارب الزمن الذي نكاد لا نرى تسربه من بين أصابعنا، هل نمتلك تلك اللحظات التي قد تجعلنا ننتبه ونتوقف؟!

بالنسبة لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، لا بد وأن مر على أغلبنا تجربة عازف الكمان العالمي جوشوا بيل، وإن لم تكن سمعت بالقصة أو بالأحرى التجربة الاجتماعية حول سلوكيات وتصورات الناس عن الجمال والأولويات، والتي قامت بها صحيفة الواشنطن بوست عام 2007، حيث استطاع المحرر أن يقنع العازف العالمي المشهور بأن يشارك بهذه التجربة من خلال عزف موسيقى كلاسيكية في محطة مترو أنفاق العاصمة واشنطن لمدة 45 دقيقة، بحيث يتم تصوير الحدث بالفيديو لملاحظة سلوكيات الناس خلال مرورهم به وهو يعزف، وكانت الأسئلة الرئيسة كالتالي: في بيئة عمل مكان مشترك وفي ساعة غير مناسبة، هل ندرك الجمال؟ هل نتوقف لنقدر ذلك؟ وهل نحن ندرك الموهبة في سياق غير متوقع؟

والآن ماذا حدث عندما ارتدى أحد أمهر عازفي الكمان في العالم قميصًا عاديا وقبعة بيسبول «أي ظهر بغير مظهره المعتاد»، ودخل مترو أنفاق واشنطن في ساعة الذروة، وفتح حقيبة آلة الكمان «ستراديفاردوس» والتي يُقدر ثمنها بما يفوق 2 مليون دولار، وعزف بعض أشهر وأصعب قطع من الموسيقى الكلاسيكية؟ مر في المحطة تقريبا 2000 شخص، معظمهم ممن كان في طريقه إلى العمل، ستة أشخاص توقفوا واستمعوا لفترة قصيرة ثم أكملوا طريقهم، وحوالي عشرون قدموا المال لكنهم واصلوا بخطوات طبيعية نحو المخرج، وبعض الأطفال ممن أجبروا على التحرك من أولياء أمورهم وتركوا المشهد على مضض، وفي نهاية التجربة لم يجمع سوى 32 دولار - عشرون منها من أحد المارة الذي تعرف عليه بما أنه كان قد حضر حفلته السابقة، انتهى من العزف وساد الصمت، لا أحد لاحظ، لا أحد صفق، ولا كان هنالك أية مظاهر من الاعتراف أو التقدير بإبداع العازف؛ أحد أعظم الموسيقيين عالميًا! علما أنه قبل يومين فقط تم بيع تذاكر حفلته في مسرح بوسطن بمتوسط 100 دولار! وكان التعليق الذي ألصق على مقطع اليوتيوب الذي نشر للتجربة تحت عنوان «لآلئ قبل الصباح»: إذا لم يكن لدينا لحظة للتوقف والاستماع إلى أحد أفضل الموسيقيين في العالم وهو يعزف عدد من أعظم المقطوعات الموسيقية التي تم تأليفها، مستخدما واحدة من أجمل الآلات الموسيقية.... إذا، كم هو مقدا ر ما نفقده من الجمال في خضم حياتنا اليومية؟!

إضافة إلى أن الأمر برمته كان بهدف خبطة صحفية تهدف إلى إنتاج قصة مثيرة، حيث أن المحرر حصل بالفعل على جائزة «بوليتزر»، أستخدم الكثيرون هذه التجربة، غير العلمية، على أساس أننا كبشر في خضم زحمة الحياة لا ننتبه للجمال: أي أننا كمجتمع متحضر، لا نعرف كيف نكتشف وتقدر الجمال عندما يكون أمامنا مباشرة، وهذا إما لأننا منشغلون جدًا، أو مقيدون بالقوالب النمطية الخاصة بكل فرد منا حتى نعطي أي انتباه لموسيقى مترو الأنفاق نظرة اهتمام أو توقف! بالنسبة لي كل ما سبق هو مجرد تخمين، وكما ذكرت مبني على نتائج تجربة غير علمية، ولهذا لا نستطيع أن نعمم النتائج! فلكل فرد منهم ظروفه الخاصة، فلو كان أحدهم معرضا لخسارة وظيفته والتي يقتات منها، بالتأكيد لن يعرض تلك الوظيفة للخطر بأن يتأخر على العمل والتعرض للمساءلة، وعليه هل نتوقع أن يتوقف هذا الموظف للاستماع إلى العزف بغض النظر عن مدى روعته؟! وهل فعلا كل الأذواق متشابهة، بمعنى هل الجميع يفضل الاستماع للموسيقى الكلاسيكية؟. هل يستمتع الجميع بالكمان كأداة عزف؟، هل ستتوقف للإصغاء إلى نوع من الفنون فقط لأن غيرك تعجبه أو يفضلها ومستعد أن يدفع ثمنا باهظا لتذكرة دخول هكذا حدث الفني؟. كل فن له معجبوه، ولكل إبداع متذوقوه، وبما أنه بالنسبة لمجموعة يعتبر جميلا، لماذا نتوقع أنه سوف يلحق بهم البقية؟! هل يمكننا أن نضع مثلا جوشوا في صحراء جيبوتي وأن نتوقع أن يتوقف المارة هناك للإصغاء والاستمتاع؟! عليه فالسؤال هنا أي مرتبة تحتل الموسيقى والفنون في أولويات الحياة التنافسية؟ ماذا لو تمت التجربة في توقيت العودة من العمل والناس في بحبوحة من الوقت بحيث يمكنهم التوقف والاستمتاع؟ أليس من الوارد أن يكون التجمع حوله قابل للتحقق بأعداد كبيرة؟. وماذا لو أنه فعل ذلك في أوقات الإجازات في الساحة أو في حديقة أو مدخل سوق تجاري كما يفعل غيره من فناني الشوارع والذين عادة ما يكون أغلبهم من الهواة، ولكن يجدون من الاهتمام أكثر مما حصده العازف جوشوا في ذلك اليوم وذلك التوقيت؟ ولماذا اهتم الأطفال بعزفه؟ لأنهم ليسوا تحت أي ضغط من ضغوط الحياة، وبهذا وصلهم الجمال وتأثروا به!.

أعطني الوقت وأعطني راحة البال، ولسوف ألتفت لكل جمال يزهر في طريقي، سوف ألتفت إلى العبير وإلى النغم وإلى الألوان وكل الأشكال الإبداعية! لم لا؟! ، حينها أكون مجهزة نفسيا حتى أستقبل! وهذا فعلا ما أقوم به خلال رحلاتي، لا أدع أي مشهد أن يفوتني دون أن ألتفت إليه وأعطيه حقه من الاهتمام، فقط كي أقطف اللحظات الجميلة وأغرسها في الذاكرة لاستخدامها فيما بعد كيفما شئت، وعليه لست مستعدة أن أشعر بالذنب إن مررت ولم أنتبه فقط لانشغالي بما يدور في ذهني من ضغوطات الحياة!. وبالمقابل بالنسبة لكتاباتي فإن مر عليها الناس ولم يلاحظ أي نوع من الجمال أو الإبداع فيها، فلن ألومهم أو أشعر بالاستياء، فأنا سعيدة لوجود من يقرأ ويرى، وذلك يدفعني كي أجتهد وأن أحرص على التقدم والتطور في أعمالي، ونصيحتي لكل من يعتقد بأن أعماله لا تقدّر، لا تنظر لمن لا يُقدّر، بل قدّر من يفعل وابني على ذلك، ربما يكون المكان أو الزمان أو حتى الوسيلة التي تستخدمها. أعد حساباتك واجتهد ولسوف تجد المفتاح ومن خلاله تتضح الرؤيا ومن ثم ستفتح الأبواب بإذن الله وتصل. وعلى فكرة جوشوا وجد الطريقة من خلال الإعلان والإشهار، ووجد المكان في قاعات الأوبرا والمسارح الشهيرة، ووجد المتذوقين لهذا النوع من الفنون والذين عادة ما يأتون وهم بأكمل جاهزية للإصغاء.