لحقت مرحلة ما سمي بـ«الربيع العربي» سنوات عجاف، دخلتها بلدان عربية وهي بحالة من الصراع والتشظيات الرأسية والأفقية سياسيًا واجتماعيًا.

وقد وجدت بعض القوى الإقليمية والدولية في تلك المرحلة ضالتها لتكريس حالة من الانقسام والصراع في بلدان ذلك الربيع، توافقًا مع مشاريع «الفوضى الخلاقة»، وهو المصطلح الملتبس، الذي تم نحته ليخبئ الأهداف التي تسعى لها قوى دولية وإقليمية في المنطقة العربية.

انهيار الدولة في بلد ما يعني بطبيعة الحال انتقال مواطني البلد المنهار من مرحلة الشعب المتجانس إلى مرحلة المكونات المتصارعة. فالشعب اليمني الذي ينتمي لعرق واحد ودين واحد ويتحدث لغة واحدة يصبح شوافع وزيودًا، وجنوبيين وشماليين و«مطلع ومنزل ودحابشة وجعاربة وحاشد وبكيل ومدجج، وهوية إيمانية وهوية يمانية» وغيرها من تسميات يمكن أن تحمل دلالات كثيرة، لكنها لا يمكن أن تدل على الشخصية اليمنية.

يصدق ذلك على العراق ولبنان وسورية وفي ليبيا كذلك، ولكن مع انتفاء العوامل الطائفية التي قامت مقامها الهويات القبلية والجهوية التي تنخر في الأنساغ التي يتشكل منها جذر الشعب الليبي الواحد.

لا يمكن القول إن ذلك يحدث مصادفة، لأننا نرى بأم أعيننا المعاول التي تمارس الهدم والتفتيت في تلك الشعوب والمجتمعات، ونرى الأيادي الظاهرة والخفية التي تمسك بتلك المعاول.

إن خطورة تفتيت بلد عربي لا تكمن في أثره على ذلك البلد، ولكن، وكما هو معلوم، فإن تفتيت بلدٍ ما يعد مقدمة لتقسيم بلد آخر مجاور له.

من هنا نرى حرص بعض القوى الإقليمية على استهداف اليمن والعراق للإضرار بالأمن القومي للبلدين في المقام الأول، كما هو لاستهداف الأمن القومي للخليج والسعودية على وجه الخصوص، وللأسباب ذاتها تستهدف ليبيا للإضرار بالأمن القومي لليبيا أولاً، ثم لمصر ودول المغرب العربي بشكل عام.

وبالعودة إلى الشأن اليمني فإن محاولات تقسيم اليمن التي تقتات عليها بعض المشاريع الصغيرة في البلاد، تحاول أن تكتسب طابعًا استقلاليًا براقًا ومدغدغًا لمشاعر الجمهور، سواء كانت تلك المحاولات تصب في صالح التقسيم الطائفي، أو تلك التي تعتمد التقسيم الجغرافي حلاً للخروج من المعضلات القائمة.

والأمر اللافت أن مشاريع التقسيم الطائفي والجغرافي تلتقي مصالحها في الجوهر، وإن زعمت أنها مشاريع متضادة، لأن مشروع التقسيم الجغرافي لا يمكن أن يستمد مشروعيته أو بريقه إلا بوجود مشروع للتقسيم الطائفي، يُمَكّنه من تسويق بضاعة التقسيم، في ظل وجود نقيض طائفي لا يمكن الالتقاء معه.

وبما أن تقسيم اليمن يأتي كمقدمة لاستهداف الأمن القومي العربي في خاصرته العربية السعودية، فإن القوى التي تعمل على تلك المشاريع تتبنى - أحيانًا بشكل صريح، وأحيانًا أخرى بأشكال أكثر مواربة - دعم المشاريع المتضادة الشعارات والمتحدة الأهداف، والتي تهيء لوضع تكون فيه الفوضى وضعف حضور الدولة واستعار الصراعات هو السائد من أجل تيسير مهمة السيطرة على مقدرات الدول العربية المستهدفة.

لا يمكن إنكار أنه توجد بشكل طبيعي داخل أي بلد ميول للاستقلال لدى بعض مكونات شعبه، لكن الحقيقة أن هذه الميول لا تتعاظم، وتصبح شعورًا ملحًا وسياسة متبعة إلا إذا وجدت دعمًا أو تحريضًا خارجيًا، يأتي غالبًا لأهداف مختلفة لا علاقة لها بطموحات الاستقلاليين الذين عادة ما ينساقون وراء شعارات لا يفيقون من سكرتها إلا بعد فوات الأوان.