لم تكن المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي تستخدم فيها روسيا ورقة معابر المساعدات للسوريين، لإثبات أنها متحكمة دوليا في أي قرار يتعلق بسورية، ولابتزاز المجتمع الدولي حتى عندما يكون الأمر إنسانيا. كادت مسألة المعابر أن تكون موقعة أولى في اختبارات ما بعد قمة بايدن - بوتين، لكن الجانبين تفاديا الصدام براجماتيا، وإذا كان هناك تنازل فقد جاء من واشنطن التي تخلت عن زيادة معبري «باب السلام» (من تركيا) و«اليعربية» (من العراق) للإبقاء على «باب الهوى» المعبر الوحيد من تركيا إلى إدلب، لأن موسكو طالبت أساسا بإغلاقه مدعية أن «عملية المساعدة عفى عليها الزمن وتنتهك سيادة سورية وسلامة أراضيها». ولو كان لدى مجلس الأمن استعداد للموافقة على مرور المساعدات عبر مناطق سيطرة النظام لما كان عفى عليها الزمن، بل لأصبحت موضع ترحيب وثناء. إذ يرى الروس أن كل ما يعطي نظام بشار الأسد سلطة، ولو على إيصال كيس حنطة إلى محتاجين، هو ميزة تضاف إلى «شرعيته».

انطلقت موسكو في إشهارها «الفيتو» المسبق على معبر «باب الهوى» برزمة تهديدات مضمرة، كتعطيل أي قوافل للمساعدات وسبق لها أن قصفتها عام 2016، أو باستئناف الحرب لإخضاع محافظة إدلب بما تعنيه من دفع لحشود اللاجئين إلى خارج الحدود، وهذا خيار روسي - أسدي دائم يرفع أو يحجب عند الحاجة. ثم كانت لديها رزمة شروط للتفاوض على تمديد آلية المساعدة، بدءا برفض قاطع لزيادة عدد المعابر (أي لا لمساعدة سكان شمال شرقي سورية)، وخصوصا بزعم أن إغاثة أكثر من 3.5 ملايين سوري تذهب إلى جماعات إرهابية في إدلب، ثم بالتشكيك بعمل منظمات الأمم المتحدة لطرح فكرة إشراف روسي - أسدي على المعبر الوحيد، وبالمطالبة برفع العقوبات الأمريكية والأوروبية بعد اتهامها بأنها سبب تدهور معيشة السوريين عموماً (لا الأزمة المتفاقمة تحديداً منذ التدخل الروسي، وقبله الإيراني).

في المقابل، كان هناك إصرار أمريكي على الفصل بين مساعدات إنسانية غير قابل للتسييس ولا تساهم روسيا ولا أي من حلفائها في تمويلها، وبين العقوبات التي فرضت أساساً لهدفين: عدم تمرير جرائم النظام وحلفائه، والضغط من أجل حل سياسي يفترض أن ينهي الأزمة السورية. أما الاعتماد على أجهزة نظام الأسد لتوزيع المساعدات فلم يكن وارداً أبداً في مجلس الأمن، لأن تجربة الإغاثة الدولية مع دمشق سجلت نسب عرقلة للمساعدات بين 80 و90%، وتركت مرارات لا تنسى لدى الإغاثيين حين صاروا شهوداً على سياسة تجويع اتبعها النظام ضد أهالي درعا والغوطة ومضايا. كان أحد أكبر ضباط النظام يمانع دائماً إدخال معظم المواد الأساسية، وحين يكون متأكداً من أن الحصار بلغ مرحلة صعبة فإنه يريد تقنين كميات الحليب للأطفال ويبلغ أقصى التشدد في حرمانهم من البسكويت، برغم توسلات الإغاثيين.

لا يؤرق موسكو أن يقال لها مثلاً إنها قد تتسبب بمجاعة في إدلب، فهي تريد استعادتها للنظام ولو بتجويعها ولا تكترث لاندفاع مئات ألوف اللاجئين/‏ المجوعين مجدداً إلى خارج الحدود. حاولت الضغط على أنقرة للاتفاق على إغلاق المعبر، وجددت القصف الجوي ملوحة بتمزيق «اتفاق سوتشي» لاستئناف اجتياح إدلب، غير أن الوضع الحالي في هذا الجيب الإدلبي هو أفضل الممكن (للجميع) منذ إجبار معارضي النظام في محافظات أخرى على اللجوء إليه. لم يكن في إمكان تركيا أن توافق، فالنتائج السيئة ستكون صعبة عليها وستنعكس أيضاً على اتفاقاتها مع أوروبا، وفي المدى المنظور ستتأثر أيضاً الاتصالات الجارية لتحسين العلاقات الأمريكية - الروسية. وفي الأثناء رصدت موسكو ملامح «عودة أمريكية» للاهتمام بالملف السوري، سواء في مؤتمر روما لـ«تحالف محاربة داعش» أو في اجتماعات على هامشه، ويهمها أن تستطلع الجديد في موقف واشنطن.

المتداول في دمشق أن الرئيس الروسي كان يدير شخصياً مسألة المعابر، وأنه صعد القصف في إدلب وطلب التركيز على رفض التمديد للمساعدات وتضخيمه، بل شجع دمشق على التشدد، واعتبر الأسد أن لديه ما يكسبه مطلع ولايته الرابعة من أي «مواجهة» أمريكية - روسية. لكن فلاديمير بوتين رسم حدوداً للابتزاز، فالإصرار على إغلاق المعبر سيدفع أمريكا والدول الغربية إلى خيارات أخرى، وقد تحرك ملفات مزعجة ضد روسيا. من ذلك مثلاً تفعيل توصيات «لجنة وقف النزاعات» (برئاسة يان إيجلاند) التابعة للأمم المتحدة، التي انكبت على التدقيق في مئات الوقائع المثبتة عن قصف روسي لمستشفيات وملاجئ وسيارات إسعاف ومراكز طبية في سورية، وخلصت إلى إمكان اتهام روسيا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وقد ارتأت الأمانة العامة عدم تعميم هذه التوصيات وتحفظت عنها، لكن الدول المهتمة اطلعت عليها.

كانت موسكو مستعدة منذ البداية لتسوية قوامها التمديد ستة شهور فقط لمعبر «باب الهوى» لكن لقاء تنازلات أمريكية، كتخفيف العقوبات على نظام الأسد، فيما ساعد التصعيد الميداني في استبعاد المعبرين الإضافيين. دعمت واشنطن مشروع القرار الإيرلندي - النرويجي (التمديد لـ12 شهراً واعتماد «اليعربية» معبراً ثانياً)، وعندما مررت المندوبة الأمريكية ليندا توماس-جرينفيلد إمكان توسيع نطاق المساعدات التي تصل عبر النظام بدا أن التسوية ممكنة، وتوصلت المساومة الأخيرة بين السفيرين الأمريكي والروسي إلى «حل وسط»، فعدل مشروع القرار ليتضمن في مقدمته إشارة عامة يفهم منها تعزيز المساعدات لمناطق النظام، وليقتصر في قراراته على التمديد للمعبر الحالي لـ12 شهراً مع مراجعة شكلية أصرت عليها روسيا بعد ستة شهور بناء على تقرير للأمين العام للتأكد من شفافية تدفق المساعدات وتوزيعها عبر «باب الهوى»، وليس واضحاً إذا كانت معاينة الشفافية مطلوبة أيضاً بالنسبة إلى المساعدات التي تدخل عبر النظام ويتحكم بطرق توزيعها. المهم بالنسبة إلى موسكو أن تبدو كأنها توسع التعامل الدولي مع نظام الأسد وأن يمكنها ذلك عملياً من مواصلة الضغط لتسويق هذا النظام لدى دول عربية وغير عربية ترغب في تطبيع علاقاتها معه لكنها تخشى «عقوبات قيصر» التي لم تؤد التسوية في مجلس الأمن إلى تخفيفها أو إلى احتمال رفعها في المدى القريب.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»