حددت وزارة الحج أسعار باقات الحج لهذا العام بعد ما كشفت عن طبيعتها ومزاياها، حيث بلغت تكلفة الفئة الأولى 12.113 ريالا، والفئة الثانية 14.381 ريالا، والفئة الثالثة 16.560 ريالا.

وطرحت هذه الأسعار تساؤلات عدة حول مفهوم الاستطاعة المحدد لأداء النسك، والمستمد من قوله تعالى «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا»، (آل عمران 96).

وكان أكثر من نصف مليون متقدم قد قدموا طلباتهم لأداء الحج هذا العام، وتم اختيار 60 ألفا من سكان المملكة الذين تلقوا جرعتي لقاح ضد فيروس كورونا، واستجمعوا الشروط التي تم وضعها لأداء النسك هذا العام، ومنها أن يكون المتقدم بطلب التسجيل لم يسبق له الحج مطلقا، ومراعاة السن تنازليا، ابتداء بمن هم في عمر 65 سنة فمن بعدهم نزولا.

وتباين فهم نطاق «الاستطاعة» ليشمل ليس فقط الزاد والراحلة، بل وكذلك مفهوم الأمن والسلامة الذي لم يقتصر على زمن غياب الحروب والصراعات السياسية، بل اشتمل كذلك على مفهوم السلامة والوقاية من الأمراض والأوبئة التي عطلت الحج نحو 40 مرة عبر التاريخ بحسب توثيق دارة الملك عبدالعزيز، وبحسب كثير من المصادر الأخرى.

مناط الاستطاعة

يرى العلماء أن الاستطاعة أمر منوط بالأفراد، يختلف باختلاف أحوالهم البدنية والمالية، فمنهم مَن لا يضره بيع بيته أو أرضه (أو يكفيه إيراده أو راتبه) لينفق منها أو ينفقها على سفره لأداء فريضة الحج، ومنهم مَن إذا باع بيته لا يجد لنفسه ولعياله مأوى سواه، وإذا باع أرضه القليلة التي يتعيش مع من تجب عليه نفقتهم من زرعها، لا يستطيع أن يعول نفسه، وعياله من عمل يغنيه عنها، ومنهم من ليس كذلك، كمن يحسن صناعة، أو خدمة يجد فيها كفايته، فمتى فهم المكلف الحكم، فله أن يجتهد في تنفيذه، ويعذر إذا أخطأ في اجتهاده، بل يؤجر أيضا إذا لم يقصر فيه، ولم يكن مقصده منه العثور على شبهة يتوكأ عليها في التقصير عن أداء الواجب.

وأجمعت الأمة سلفا وخلفا على وجوب الحج على المستطيع، وشددوا على أن الاستطاعة في الحج هي القدرة على ثمن أو أجرة الوسيلة الموصلة إلى البلاد المقدسة والمعيدة منها، إضافة إلى ما يحتاجه الحاج من نفقاته، ونفقات من تلزمه نفقته، والقدرة البدنية، وأمن الطريق، وإمكان المسير.

المال أم الصحة

لم يجمع كل الفقهاء على تفسير معنى الاستطاعة، وبالتالي اختلفوا في تحديد المراد بها، فرآها البعض ملك الزاد والراحلة، ومن هؤلاء مجاهد، وسعيد بن جبير، والشافعي، وإسحاق، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، وهو قول سحنون، وابن حبيب من المالكية، فيما قال آخرون، إن الاستطاعة هي الصحة.

التوسع في الاستطاعة

وذهب فقهاء أيضا إلى أن الاستطاعة تشمل كذلك الأمان في السفر، ومن هنا يمكن فهم لماذا حرم الأندلسيون الحج لفترات، حين كانوا معزولين ومحاطين بالبحور من ثلاث جهات، وبالأعداء من الرابعة، مع كثرة الأعداء المتربصين والقراصنة وقطاع الطرق وتقلبات الجو، ما جعل سفرهم ووصولهم إلى الحج أمرا بالغ الخطورة، كما أن بعد المسافة الذي كان يستلزم أن تستغرق رحلة الحج نحو العامين ذهابا وإيابا لعبت دورا مؤثرا في الإفتاء بعدم استطاعة أداء المنسك، ولذا صدرت فتاوى بتحريم رحلة الحج في فترات مختلفة.

فتوى ابن رشد

في وقت تعيش فيه المملكة اليوم أجواء الأمن والأمان، فإن كثيرين لم يفكروا في موضوع الأمن كشرط للاستطاعة، لكن كثيرا من المعنيين تذكروا أن مبررات الأمن نفسها أسقطت الحج عن الأندلسيين وأهل المغرب بفتاوى عدة، أبرزها فتوى ابن رشد التي استمرت 80 عاما، حرصا عليهم من قطاع الطرق والقراصنة، وحفظا لأنفسهم من أن يتعرضوا للعدوان على أيدي النصارى أيام الحروب الصليبية.

ولم تكن فتوى ابن رشد وحيدة في هذا الجانب، بل وافقه عليها ابن حميدين واللخمي.

الحروب والأوبئة

مع شمول مفهوم اللاستطاعة لتوفر الأمن، فإن تفشي الأوبئة والحروب يدخلان ضمن حدود موانع الاستطاعة، ومن هنا يفهم قرار المملكة في قصر حج هذا العام على حجاج الداخل وبعدد محدود، بعد أن كان حج العام الماضي رمزيا، وهو القرار الذي جاء ليصب في مصلحة سلامة الحجاج في ظل تفشي وباء كورونا.

ولم يكن قصر الحج خلال هذه الجائحة على أعداد محدودة سابقة في التاريخ، بل تقطعت السبل بالحجاج أكثر من مرة عبر التاريخ وغالبا بسبب تفشي الأوبئة أو اضطرام الحروب، أو المعاناة من قطاع الطرق وغياب الأمان.

كما يمكن أن نفهم بعض قرارات الجهات المعنية بالحج من خلال مفهوم الاستطاعة، حيث أصدر المركز الوطني السعودي للوقاية من الأمراض ومكافحتها، بروتوكولات صحية خاصة بالوقاية من كورونا من بينها منع لمس الكعبة والحجر الأسود، ووجوب ارتداء الكمامات واستخدام سجادات الصلاة الشخصية، ومنع دخول الحجاج مناطق منى ومزدلفة وعرفات من دون تصريح.

طرق متباينة

كانت رحلة ابن جبير الأندلسي في القرن السادس للهجرة أول رحلة أندلسية للحج، تبعتها لاحقا قوافل عدة اتخذت طرقا عدة للوصول إلى الحجاز، بعضها من جنوب الأندلس إلى مضيق جبل طارق بالمغرب فالقيروان وصولا إلى الإسكندرية المصرية، ومنها عبر البحر الأحمر إلى مكة.

ومنها ما كان يخرج من شرق الأندلس أو الساحل الجنوبي الشرقي عبر البحر إلى الإسكندرية، ومنها إلى البحر الأحمر وصولا إلى مكة، ومنها ما كان يخرج من فالنسيا شرق الأندلس إلى الجزر الشرقية ثم سواحل فلسطين (عكا والرملة)، ومنها إلى القدس الشريف، ثم منطقة العقبة وصولا إلى الحجاز فمكة.

السهلي: كورونا نازلة تحقق عدم الاستطاعة

بيّن أستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة في جامعة أم القرى، عضو الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، إمام وخطيب جامع الأميرة شيخة بمكة المكرمة الدكتور محمد السهلي لـ«الوطن» أن الاستطاعة هي الشرط الخامس من شروط وجوب الحج، وهو الشرط الوحيد الذي ذكره الله في كتابه الكريم.

وبين أن ما ذكره العلم في وجوب الحج، هي 5 شروط: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والخامس هو الاستطاعة، لقوله جل وعلا: «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا».

وأضاف أن المقصود بالاستطاعة بيّنه النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، حين سئل عن الاستطاعة، فقال الزاد والراحلة، بحيث أن يكون معه زادا يكفيه من بلده إلى أن يعود لبلده مرة أخرى، وأن يكون عنده زاد يكفيه ويكفي أهله وأولاده من خروجه للحج حتى عودته، وأما الراحلة فأن تكون لديه راحلة تليق بمثله، مضيفا «على الصعيد ذاته فإن أهل العلم ربطوا بالراحلة أمن الطريق، حيث إن الراحلة بدون أمن الطريق لا فائدة منها، فمن كمال وجود الراحلة أمن الطريق، فإن كان الطريق مخيفا وتوفر الزاد والراحلة، فإنه لا يجب الحج، وهذا معنى الاستطاعة الزاد والراحلة، والتي من مستلزماتها أمن الطريق من خروجه للحج حتى عودته إلى أهله».

نوازل مانعة

أشار السهلي إلى أن «من النوازل في مثل أيامنا هذه جائحة كورونا، التي نسأل الله أن يرفع بأسها عن المسلمين والبشرية عامة، وما نجدر أن نذكر به هو الدعاء والثناء العطر لقيادة هذه البلاد، لما بذلته من جهود جبارة وتضحيات مباركة باحتواء هذه الجائحة والمحافظة على المواطنين والمقيمين على ثرى هذه البلاد الطاهرة عبر اتخاذ إجراءات احترازية مشددة، مبينا أن هذه الجائحة من أمن الطريق، وهذه الإجراءات الاحترازية تقطع الطريق على الناس من الوصول إلى بيت الله الحرام إلا بتوفر الشروط، ولذلك تعد الجائحة من موانع عدم تحقق الاستطاعة، فلا يستطيع أن يأتي للحج إلا بتصاريح واعتمادات، وهذا مما أتخذته القيادة الرشيدة بالتنسيق مع كافة الدول الإسلامية لإيقاف الحج من الخارج لهذا العام حفاظا على عامة المسلمين وعلى المشاعر ومن يسكنها، والاقتصار على المواطنين والمقيمين في هذه البلاد، فمن حالت كورونا بينه وبين إتمام الحج فإنه معذور عند الله جل وعلا، ويعطى على نيته حينما نوى الحج، وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».

طاعون وكوليرا

في كتابيها «الطاعون في زمن الإمبراطورية العثمانية» و«الطاعون والعدوى في المتوسط الإسلامي» تشير أستاذة التاريخ في جامعة روتغرز- نيوارك، وجامعة كارولينا الجنوبية الأمريكية، المؤرخة التركية الأمريكية الدكتورة نكهت وارلك، إلى أن العالم الإسلامي شهد أوبئة عدة في التاريخ منها الطاعون والكوليرا والجدري والجذام والملاريا، وأثر بعضها على أداء العبادات، بما فيها الحج الذي ينطوي على السفر والتجمعات، حتى أن الكوليرا علق الحج لمرات نادرة جدا في القرن الـ19، كما تم اللجوء مرارا إلى عزل الحجيج بشكل صحيح واحتواء انتشار المرض.

سجلات للتاريخ

يشير الموقع الرسمي لدارة الملك عبدالعزيز، إلى أن التاريخ الإسلامي سجل تعطل موسم الحج 40 مرة، «بسبب أحداث وكوارث لازمت مواسمه (..) منها‏:‏ انتشار الأمراض والأوبئة‏، والاضطرابات السياسية‏ وعدم الاستقرار الأمني، والغلاء الشديد والاضطراب الاقتصادي،‏ إلى جانب‏ فساد الطرق‏ من قبل اللصوص والقطاع»، ويمكن إدخال كل هذه العوامل تحت عنوان عدم الاستطاعة.

ويقول الموقع إنه «لا يجوز تعطيل الفريضة إلا لأسباب كبرى تحول دون إتمامها، كفقدان الأمن أو انتشار وباء في مكة المكرمة».

أول تعطيل

بحسب الموقع، فالمرة الأولى التي شهدت تعطيلا لفريضة الحج كانت بسبب «القرامطة»، الذين كانوا «يعتقدون أن شعائر الحج من شعائر الجاهلية ومن قبيل عبادة الأصنام».

وبحسب المصادر التي استند إليها موقع الدارة، فقد وقف أبو طاهر القرمطي أمام باب الكعبة في الثامن من ذي الحجة عام 317 الهجري، ونادى في أتباعه قائلا «أجهزوا على الكفار وعبدة الأحجارـ ودكوا أركان الكعبة واقتلعوا الحجر الأسود».

ويقال إن موسم الحج آنذاك شهد مجزرة خلفت ما لا يقل عن 30 ألف قتيل من الحجاج الذين دفنوا في موقعهم دون غسل ولا كفن أو صلاة. كما قام القرامطة بطمر بئر زمزم بوضع ثلاثة آلاف جثة فيه.

اختطاف الحجر الأسود

بعيدا عن تعطيل الحج للموسم آنف الذكر، اختطف القرامطة الحجر الأسود ونقلوه إلى عاصمتهم في البحرين، ما تسبب في تعطيل موسم الحج لمدة يعتقد أنها وصلت حتى 10 أعوام، بينما دعا زعيمهم الناس لأداء فريضة الحج في البحرين.

الماشري

يوثق التاريخ الإسلامي أن وباء تفشى في مكة سنة 357 هجرية، عرف باسم «الماشري»، تسبب في موت كثير من الناس، وتسبب في موت جمال الحجيج أيضا جراء العطش، وأن معظم من تمكنوا من الوصول إلى مكة حجيجا ماتوا بعد أدائهم الحج.

وبعيدا عن الأوبئة حال الغلاء الشديد دون وصول الحجاج من مصر إلى مكة. بينما لم يحج أحد من أهل المشرق أو مصر عام 419 لأسباب يرجح ارتباطها بذات الظروف.

وبحسب الدارة، شهد عام 429 هجري أحداثا أربكت المسلمين وأفقدتهم الأمن في بقاع كبيرة من أراضيهم، وحالت دون وصول أي منهم إلى مكة لأداء مناسك الحج «بسبب النزاع المستشري بين ملوكهم».

الحرب

كما توثق المصادر وقوع حروب حالت دون وصول الحجاج إلى مكة ما بين عام 654 و658 هجري، ما عدا أهالي الحجاز.

ويشير موقع الدارة كذلك إلى توقف شهده موسم الحج عام 1213 هجري، وذلك بسبب «الحملة الفرنسية»، والتي تسببت في انعدام الأمان على الطريق المؤدي إلى مكة.

وباء من الهند

أشارت الدارة إلى أن عام 1246 هجري شهد تفشيا لوباء قادم من الهند، تسبب في مقتل ما لا يقل عن ثلاثة أرباع الحجاج المتوافدين آنذاك.

كما أشارت إلى أن وباء الكوليرا كان قد تفشى في موسم الحج، دون توثيق تاريخ دقيق، تسبب في وفيات بين الحجيج على جبل عرفات، وبلغ ذروة وفياته في مِنى.

حدود الاستطاعة للحج

القدرة على ثمن أو أجرة الوسيلة الموصلة إلى البلاد المقدسة والمعيدة منها

ما يحتاجه الحاج من نفقاته

ما يحتاجه الحاج من نفقات من تلزمه نفقته (زوجته وأولاده وربما أبواه)

القدرة البدنية

أمن الطريق

إمكان المسير.

من موانع الاستطاعة

1ـ انتشار الأمراض والأوبئة‏

2ـ الاضطرابات السياسية‏ وعدم الاستقرار الأمني

3ـ الغلاء الشديد والاضطراب الاقتصادي

4ـ فساد الطرق‏ من قبل اللصوص والقطاع

تعطيل الفريضة

40 مرة تعطلت خلالها الفريضة عبر التاريخ

لا يجوز تعطيل الفريضة إلا لأسباب كبرى تحول دون إتمامها

مرات تعطلت فيها فريضة الحج

بسبب القرامطة عام 317 للهجرة حيث قتلوا 10 آلاف من الحجاج

اختطف القرامطة الحجر الأسود ونقلوه للبحرين وتعطل الحج نحو 10 سنوات

بسبب وباء تفشى في مكة سنة 357 هجرية، عرف باسم «الماشري»

بسبب الغلاء الشديد لم يحج أحد من أهل المشرق أو مصر عام 419 للهجرة

لم يتمكن كثير من المسلمين من الوصول إلى مكة عام 429 هجري لفقدان الأمن في بقاع كثيرة

الحروب حالت دون وصول الحجاج إلى مكة ما بين عام 654 و658 هجري، عدا أهالي الحجاز.

تعطل موسم الحج 1213 هجري بسبب «الحملة الفرنسية» وانعدام الأمان على الطريق المؤدي إلى مكة.

عام 1246 هجري شهد تفشيا لوباء مقبل من الهند قتل ثلاثة أرباع الحجاج المتوافدين آنذاك.

وباء كوليرا تفشى في موسم الحج دون تحديد تاريخ دقيق وتسبب في وفيات بين الحجيج