تحدثت خلال مقال (كيف تقضي رؤية 2030 على الصحوة العميقة؟)، وذكرت ضرورة وضع ذراعًا فكريًا للرؤية، يقوم بالمهمة الأصعب والأكثر تعقيدًا، وهي ملء الفراغ خلف الفكر الصحوي المتطرف والذي هيمن على ذهنية المجتمع لأكثر من ثلاثة عقود، وكذلك الاضطلاع بمهمة معالجة الورطات المنهجية والمعرفية والسلوكية والشعورية التي خلفتها الصحوة.

ولشرح الفكرة بتوسع، أرى أنه من الضروري إيضاح وضع (الصحوة السابقة)، والتي قُطع اليوم منها ما ظهر على السطح فقط، وبقيت جذورها العميقة والقوية (الصحوة العميقة)، وهذه الجذور متى ما بقيت فإنها ستسهم حتمًا في عودة الصحوة من جديد بقالب مختلف (الصحوة الارتدادية).

ولا يمكن فهم (الصحوة السابقة) بشكل دقيق إلا عند فهم أبرز عائق في واقع المجتمع السعودي، يعوقه عن التحرك والتقدم، والذي كوَّنه حزمة من الأعراف والتقاليد أُلبست لباس الدين، وأخذت قدسية النصوص الشرعية، بسبب ترسيخ الصحوة لمفاهيم معينة، بغية فرض السيطرة على المجتمع، وإظهار التحكم فيه، وأصبح هذا القالب من التدين جزءًا من قيم المجتمع وثقافته التلقائية، يعاد تدويره وترسيخه في المكوِّن الفكري للمجتمع بأشكال وأساليب متنوعة، من خلال نظام ثقافي صُلب متعدد الأضلاع (تعليمًا وإعلامًا ووعظًا...).

وبدأت الحكاية حينما انصبت جهود الجيوب الإخوانية التي انتشرت في أنحاء المملكة، ابتداءً من بدايات الستينيات الميلادية، على الجانب الفكري، حيث استطاعوا بث أفكارهم ونظرياتهم ضمن أسس البنية الإدارية والتعليمية والإعلامية في مفاصل الإدارات الرسمية والمجتمع، وهذا الأمر أدى إلى نقل الفكر الديني في السعودية إلى بعد حركي لم يكن معهودًا من قبل، حيث أسهم هذا الفكر الدخيل في تأسيس فعلي وعميق لما سيعرف بالصحوة لاحقًا.

والصحوة من خلال مواجهتها مع خصومها وأعدائها بمن فيهم الدولة، استخدمت أدواتٍ جديدةً لم تكن معهودة في المجتمع السعودي في أزمنة سابقة، من خلال استخدام منابر الجمع، والمساجد، إلى الوسيلة سريعة الانتشار في عقدي الثمانينيات والتسعينيات أشرطة (الكاسيت)، وغيرها من وسائل الضغط والتشويه، والتي بسببها تم تجييش وحشد غالبية المجتمع في جبهة واحدة ضد خصوم الصحوة.

كانت (الصحوة السابقة)، تحولًا ومنعطفًا مهمًا في المجتمع السعودي، حينما جاءت بقضايا منهجية ومسائل شائكة جديدة على الساحة المحلية، وحاولت معالجتها أو حلها، إلا أن الكثير من هذه المسائل والقضايا، ظلت ملفات ساخنة غير منجزة؛ لعدم توافق أسس ومنطلقات الصحوة مع مبادئ الإسلام العليا وسماحته، وكذلك لهشاشة البنية المعرفية لمشروع الصحوة فكرةً وأداءً، إضافة إلى وجود ممانعة مجتمعية بطريقة معينة كانت تقاوم هذا الانسداد النمطي الصحوي، انطلقت من تلبية احتياجات كمالية صغيرة انبثقت من تنامي احتكاك أفراد المجتمع بالمجتمعات الأخرى، ناهيك عن الانفتاح الإعلامي والاتصالي؛ الذي مهد الطريق نحو إعادة طرح الممنوع بصور متعددة ومختلفة في كل مرة، ليسهم في تفتيت التّزمت والتشدد الصحوي، غير أن ما نفع الصحوة وهيأ لصوتها العلو، هو تراكم الأعمال الحركية الصغيرة جدًا، والبطيئة جدًا، والكثيرة جدًا، ذات المفعول الأكيد والممتد.

ويمكن تلخيص الآليات التي شكلت بها الصحوة الوجه الثقافي للمجتمع السعودي بالتالي:

أولًا: الأخذ في جوانب التشريع بمبدأ الصرامة والتحوَّط، خصوصًا فيما يتعلق بالمرأة.

ثانيًا: استقلالية الحكم الشرعي، بغض النظر عن الفتوى الرسمية، واستقلالية الرأي التربوي، بغض النظر عن علوم السياسة والاقتصاد والتربية والنفس والاجتماع، فيما تذهب إليه الصحوة من نتائج قطعية وأحكام نهائية، في سياقات حلول المشكلات الشرعية والمجتمعية التي تناولتها، وكوَّنت بشكل تراكمي حصيلة هائلة ومتفردة من الآراء القطعية في مختلف المسائل الفكرية والشرعية والاجتماعية، وتمكنت من إضفاء طابع القدسية عليها، وعدتها من مكتسباتها، وأضفت قدسية هائلة على وعاظ الصحوة القائلين بها.

ثالثًا: تسييج الفرد والمجتمع عبر أداة الممانعة الأبرز في الفكر الإسلامي، وهي النهي عن المنكر.

رابعًا: الاتكاء على قاعدة «سد الذرائع»، كقاعدة أفرزت الكثير من الأحكام والمفاهيم، التي ساهمت في تمكين الصحوة من عزل الفرد والمجتمع عن الأفكار والمنتجات الفكرية المختلفة.

بهذه الآليات، استطاعت الصحوة رسم المحددات العامة لوجه المجتمع الثقافي، وتمكنت من ضخ كمّ هائل من المعززات لكل جانب من جوانب الآليات الأربع المذكورة آنفًا، عبر الخطب، والدروس، والمحاضرات، واللقاءات العامة، والكتابات، والمراسلات، والمناصحات، والتأليف والنشر، والتعليم، والدعوة، وغيرها من المناشط المتنوَّعة والمختلفة، وكذلك كانت تبرز بشكل مركّز حساسية الصحوة ورموزها أمام أي انتقاد يمكن أن يهدد رمزية الصحوة ومبادئها في ذهنية المجتمع، ولذلك تجد الجرأة المطلقة في إطلاق الأحكام على المخالفين، كالحكم بالكفر والمروق من الدين.

ويمكن تلمس ملامح المجتمع السعودي (مجتمع ما بعد الصحوة) التي رسمتها تلك الآليات بالتالي:

أولًا/ المحافظة والتحفظ: حيث قادت أدوات الصحوة، ومنهجيتها الفقهية، ورؤيتها الاجتماعية، إلى تشكيل عقل محافظ، تبرز فيه ظاهرة التوجس والتحفظ من الجديد أو الغريب سواء كان إنسانًا أو فكرًا أو منتجًا.

ثانيًا/ المظهرية: حيث تعظم الصحوة الشعائر المتعلقة بالمظهر؛ لأهمية التشاكل والتماثل المظهري، لوحدة الصف وفرز الولاءات، وهذا ما دعا بعض الوعاظ إلى إعلاء قيمة بعض الأحكام ووضعها في مكانة غير مكانتها المفترضة شرعًا.

ثالثًا/ التقيد والانقياد: لكون الصحوة وُظفت بطريقة عملية لتكوين بناء حركي، يحقق هدفًا سياسيًا، فقد كان مهمًا من الناحية التنظيمية، توحيد الرأي والرؤية، وتحجيم الاجتهاد وتشجيع الانقياد، وبالتالي تشكيل عقل جماهيري جمعي مربوط بطريقة آلية بالداعية الصحوي، يسهل توجيهه، وقيادته، وتجييشه لأي غرض، وبسبب هذه العقلية أصبحت مكانة الشيخ في الثقافة الصحوية، لا يعلوها مكانة.

رابعًا/ الولاء غير المشروط: فلا مكان في الصحوة لتعددية الولاءات والانتماء، وإنما هو ولاء واحد بلا شرط أو قيد، وهو الولاء لها ولقياداتها ومنهجها.

أخيرًا، ما يهمني التنبيه إليه في هذا الجزء من المقالات، هو أن الصحوة فكر ممتد، عمل عليه دهاقنة الإسلام السياسي، طويلًا وعميقًا، كما أن الصحوة فعل، ولكنه فعل مشوه وناقص بسبب الاستعجال والنوايا الفاسدة، فسَهُلَ إزالة أثر الفعل، وبقيت إزالة أثر الفكر، والذي يمكن لبقائه أن يولد صحوة ارتدادية أخرى، وللحديث بقية.