لا شك أن لقمة العيش هي أول أولويات الحياة، وحتى الأمن الذي هو من أهم عناصرها يأتي بعد الغذاء.

الطفل منذ أن يولد يطلق صرخة بداية الحياة، منذرًا أن هناك إنسانًا جديدًا وجد على سطح الأرض، يحتاج إلى لقمة العيش، وهكذا تأخذه الأم بحنانها إلى صدرها، وسط كل الظروف في حينها، لكي يبدأ مشواره برضعة هنية يتذوقها كتدشين لمعركة لحياة التي سيخوضها.

وعلى ذكر لقمة العيش، أذكر عندما كنت طالبًا في مدرسة الشرطة اخترت لأكون المسؤول عن أمانة صندوق الطلبة والنشاط الثقافي والترفيهي، تصدقون في ذلك الوقت كان هناك ترفيه، وأين في مدرسة الشرطة؟! معقل العسكرية والأمن، كانت قيادة مدرسة الشرطة بقيادة الرائد في ذلك الوقت كمال سراج الدين، الذي كان من أفذاذ الضباط علمًا وشخصية وأخلاقًا، وقد قام بتوجيهات من القادة بتطوير المدرسة، من القبول بشهادة الابتدائية إلى مؤهل الكفاءة، ومن الدراسة فقط سنتين إلى ثلاث سنوات، مع إجراء تعديلات كبيرة على المواد العلمية التي يتلقاها الطلبة، إضافة إلى العلوم العسكرية والأمنية.

طبعا شهادة الكفاءة في ذلك الحين كان لها شنة ورنة وكأن لديك على الأقل البكالوريوس، وحضرتنا منذ تخرجت إلى أن تركت الخدمة، لي مقولة «أنا أعتز بكفاءتي»، وأوضح ترى لا يروح ظنكم بعيد فكفاءتي التي أعنيها هي شهادة الكفاءة التي كانت هي المفتاح التي فتحت بها أبواب مشوار الحياة العملية، بل كانت الأداة التي وفرت لي بعد توفيق الله لقمة العيش لي ولأهلي.

أعود بكم إلى الوراء، كما قلت اخترت لأكون أمين الصندوق والنشاط الترفيهي، وكان من ضمن ذلك النشاط هو أنه في ليلة الخميس يعرض فيلم سينمائي، ولهذا كان على أن أخرج عصر الأربعاء لأحضر الفيلم من جدة، بحكم أن مكة لا يوجد بها محلات تأجير أفلام، نعم كانت بعض البيوت بها آلات عرض أفلام، ولكن تعرضها بالدس وهي تقول يا ستار، خوفًا من أن يأتي هادم اللذات ويقبض عليهم وسين وجيم، ولا يسلم الحال من تكسير آلة العرض، والتوقيف الذي مش ظريف لصاحب البيت، الذي ارتكب هذه «الجريمة النكراء».

والحديث يجر بعضه، أذكر كنا عندما نشغل الإسطوانة الغنائية، نوصد الأبواب والنوافذ ونضع بعض المناشف مكان التسميع حتى ينخفض الصوت، حتي لا نكون في موضع «شبهة». عندما أشد الرحال إلى جدة لجلب الفيلم، يقول لي المدير احرص على أن تأتي بأفلام جدية وعسكرية فاهم، أقول حاضر يا أفندم، وأفندم هذه كانت كلمة شائعة والحمدلله تخلصنا منها. وأنا في طريقي إلى خارج المدرسة، ينادي على الضباط اسمع يا عبدالكريم، وكانوا هكذا ينادون علي، المدير توجيهه مهم لكن في الأفلام مش ضروري، شف لنا فيلم لطيف يشرح الخاطر، وأرد حاضر «يا أفندية».

كان أول فيلم أحضرته بالصدفة هو لقمة العيش، وأذكر أنه كان من أبطاله بديع خيري الكوميدي الخطير ومها صبري، وكان فلما كوميديا بامتياز، لقمة العيش كلمة ذات مدلولات كبيرة. تبدأ من ما يسد الجوع، وتنتهي بحياة كريمة لكل فرد من أفراد المجتمع، فلا يكفي أن يسد الإنسان رمقه، بل لا بد أن تتوفر له مقومات الحياة، خاصة أن مفهوم المقومات تطور حتى أصبح يشمل منطوق كفالة السعادة، وليس فقط ما يقيم أوده، ومعلوم أن لقمة العيش تحتاج فلوس «قرنقش»، والقرنقش لا يمكن توفيرها والحالة تعبانة يا أهل الله وقرش ما فيش.

والقرش لأجل يتحصل عليه لا بد من عمل يجلبه، والدولة لا يمكن أن توظف في مرافقها كل مواطن، فالأعمال الحكومية مهما تنوعت وكثرت لا بد من حد لها.

إذًا أين يعمل المواطن، أكيد في مجال الاقتصاد الخاص، فأما أن يكون صاحب العمل وإما ترسا نافعا في منظومته، والمؤسسات الكبيرة عليها مسؤوليتها التي يجب أن تقوم بها، ولكن المؤسسات الصغيرة هي شرايين عظيمة تضخ في وريد الكفاءة الاقتصادية كمًّا هائلًا من فرص العمل والمال، سواء لصاحب المؤسسة ومن يعيله، أو من يعمل فيها من أفراد ومن يعيلون، وهذه المؤسسات تزيح عبئًا كبيرًا عن كاهل الدولة.. وتواجه هذه المؤسسات كثيرا من الأعباء التي جعلت كثيرًا منها يغادر السوق، لأن التكاليف أصبحت عائقًا لاستمرارها.

نعم إن الأنظمة لها أبعاد مهمة في تنظيم العمل لكن هناك ثغرة بين هذه الإدارات وأصحاب العمل لا بد أن تجسر، الدولة تضع التشريعات للأخذ بيد هذه المؤسسات لضمان حسن أدائها واستمراريتها.

العقوبات ليست هي الهدف بالأساس، ولكنها وسيلة يحتاج تطبيقها إلى ترشيد أكبر، خاصة أن السوق قد تأثرت بكورونا.. إن الهدف من المتابعة هو تصحيح سوق العمل وليس التضييق على المؤسسات التي ليس لديها في آخر المطاف إلا الخيار المر وهو الإغلاق، وبالتالي بسبب التنفيذ الذي قد يكون غير مناسبًا يحرم أناس من لقمة العيش، مع أن الدولة خاصة في جائحة كورونا خصصت المليارات لمساعدة هذه المؤسسات حفاظًا على استمراريتها والأخذ بيدها.

إن تنفيذ الأنظمة لا بد أن يكون مبصرًا، وهنا لابد في الإدارات التنفيذية أن تحضر الروح القيادية التي تأخذ بعين الاعتبار مراعاة المصلحة العامة بكل أبعادها.

إن خروج المؤسسات الصغيرة من السوق ليس في صالح الاقتصاد ولا سوق العمل أبدًا.. إنها لقمة العيش للكثير من الناس، خاصة متوسطي الامكانيات، وهم يشكلون السواد الأعظم، كما أن هذه المؤسسات رافد كبير في بناء هذا السوق الذي سيكون هو المتضرر الأكبر.