منذ أن أطلق سمو ولي العهد قائد الرؤية الوطنية الجديدة، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، وعده الشهير بسحق المتطرفين «اليوم وفورًا»، والعودة إلى الإسلام الوسطي المعتدل المتسامح، وهناك شعور يتنامى لدى كل مواطن محب لدينه ثم وطنه يمكن أن نصفه بارتياح لطي صفحة الصحوة المنتسبة زورًا إلى الإسلام، والهيمنة التي فرضها دعاتها ومناصروها وأتباعها بعدما ظل انتقادهم أو مخالفتهم الرأي أمرًا صعبًا جدًا سواء كان ذلك في المنابر الإعلامية أو في الحياة الإجتماعية خاصة في عقد الثمانينيات وشطر من التسعينيات التي كان الفكر الصحوي لا يقبل فيها الرأي والرأي الآخر فارضًا سطوة فكره الذي يمكن أن نطلق عليه وصف - الغفلة - المتعارف عليها -بالصحوة- التي طالت أغلب تفاصيل الحياة الاجتماعية وأثرت عليها حد تيبس مفاصل الحياة الطبيعية حتى في أبسط الأشياء، ولكن لأنه لا يصح إلا الصحيح قُلبت صفحة الصحوة لتعود الحياة إلى طبيعتها الوسطية من غير إفراط ولا تفريط.

لسنوات طوال أثرت الصحوة تأثيرًا كبيرًا على مجمل عادات وهوية المجتمع السعودي بكل ألوانها، وسأركز في بعض من حديثي على التأثير الذي تركته هذه الحركة على المفردات وتغيير القاموس اليومي في الشارع السعودي، عطفًا على الردود التي جاءت على الحديث المجتزأ للكاتب والباحث السعودي مشاري الذايدي خلال مقابلته مع القناة الإخبارية السعودية ببرنامج «هنا الرياض» والتي خصّصتها هذه المحطّة الفضائية لتقليب صفحات زمن الصحوة وتأثيرها على كل مناحي الحياة، بما فيها مفرداتنا اليومية.

وبرغم مما أثارته هذه المقابلة من جدل كبير في وسائل التواصل الاجتماعي، وما طغى عليها من ردود الأفعال الساخرة والمنتقصة، فإن الكتّاب والمثقفين إضافة إلى المغردين المجهولين، الذين أدلوا بدلوهم في هذه الردود نسوا وربما تناسوا الدراسة التي استشهد بها الذايدي والتي نُشرت في العدد الأول من مجلة الخطاب الثقافي، المجلة المحكّمة الصادرة عن الجمعية السعودية للهجات والتراث الشعبي في جامعة الملك سعود في العام 2006 تحت عنوان «اللازمة اللغوية/‏ الدينية في كلام السعوديين: أنماطها ووظائفها الثقافية» للدكتور ناصر الحجيلان، وكيل وزارة الإعلام للشؤون الثقافية.

جلّ هذه الردود لم تبحث عن هذه الدراسة، ولم تشر إليها لا من قريب أو بعيد، لكن الجميل فيها أنها وجّهتنا للبحث على ما جاء فيها رغم صدورها منذ خمسة عشر عامًا وقراءة ما تضمنته عن أدبيات الصحوة وفكرها والتعريف بآثارها، من خلال القيم والأخلاق والعادات والمفاهيم التي صاغها ورسخها شيوخها وأنصارها في الفكر المجتمعي وأصبغوها بصبغة دينية، فما من شك أن الصحوة بهذه الطريقة قامت بمحاكمة كل منتجات الواقع وتشكيلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من منظور الحقب الإسلامية الماضوية، فاختلطت المفاهيم لدينا بما هو ديني وإيماني وما يتعلق بعلاقة الإنسان بربه، وما هو معيشي وحياتي تختلف فيه الأذواق والمشارب، بمعنى أن الصحوة ألزمتنا بأشياء لا داعي لها.

فطالما رسمت الصحوة في السعودية صورتها وضخمتها بمجموعة من المفردات التي عرفت بها، وصارت هذه المفردات علامات فارقة على سطوة زمان الصحوة وهيمنة خطابها، وهي أمور في أبعد تقدير خاضعة للرأي الذي يسعه الاختلاف ويشمله التنوع، ويأتي من الأمثلة على ذلك التوجيه الذي صدر قبل أيام باستمرار فتح المحلات، ومزاولة الأنشطة التجارية والاقتصادية طوال ساعات العمل حتى في أوقات الصلوات تفاديًا لمظاهر الازدحام والتجمع، والعمل بالتدابير الوقائية من فيروس كورونا.

ولعل هذا يثبت لنا بما لا يدع مجالًا للشك أن الضرر الذي لحق بنا جراء إغلاق المحلات وتوقف الأعمال أثناء أداء الصلوات الذي صدر قبل قرابة أربعة عقود، قرار كبير وخطير، ولا يجوز الاستهانة به؛ فهو من الأمور المستحدثة التي ألزمتنا بها الصحوة وأجبرتنا عليها، برغم أن الأمر لا أساس له في الشريعة الإسلامية وسعتها وسماحتها التي جاءت برفع الضرر المتمثل في تقليل الوقت المتاح للتسوق، وتفويت حاجات المضطرين أو تأخيرها، وكذلك الإجحاف بحق أصحاب الأموال والأعمال والتجارة. فمن يرغب في الصلاة، يمكنه الصلاة، ومن يضطر لمواصلة العمل يمكنه مواصلة العمل، وأداء الصلاة متى ما سمح ظرفه، ما لم يفت وقتها، وهناك نصوص نبوية كريمة تعتبر فيصلًا في مسألة عدم شرعية الإلزام بالإغلاق أو توقف الأعمال خلال أوقات الصلاة. خاصة أن الإسلام من سماحته جعل للمسلم فسحة كافية من الوقت لإحياء سنة صلاة الجماعة بحيث لم يلزم المصلين بالصلاة في وقت واحد، واجتماع اثنين لأداء الصلاة في أي بقعة من بقاع الأرض يعتبر جماعة حتى إن كانت في زاوية مكتب أو محل تجاري أو طريق أو أي مكان.

ما سبق جزء يسير من كلّ كبير في التغيير الذي جلبه علينا الخطاب الصحوي الرافض للتباين والتفاوت والتقاطع والموجه نحو تأصيل كراهية الغير وتكريس المذهبية والطائفية ورفض المُخالف وقهره وازدرائه، لكننا بفضل من لله أولا ثم بحكمة وعزيمة قيادتنا الرشيدة ثانيا بدأنا نخرج من سطوة الصحوة وهيبتها، ونعود كما وعدنا سمو ولي عهدنا الأمين إلى ما كنا عليه من الإسلام الوسطي المعتدل المتسامح المنفتح على العالم وجميع الأديان والثقافات، بعيدًا عن التزمت والتشدد والعنف والتطرف وعدم الإقصاء والاعتراف بالتعددية.

نحن نعيش في وقت تعود كل الأمور فيه الى مكانها الصحيح ولله الحمد، لذلك من أهم ما علينا فعله أن نستوعب نحن أيضًا كمؤثرين في المجتمع سواء من كتاب او إعلاميين أو كل من له منبر أو منصه يستطيع أن يطرح فكره من خلالها أن فئة كبيرة من أفراد المجتمع تحتاج إلى إذابة جليدها الفكري الذي تراكم خلال عقود من الزمن بالرفق وتوسيع المدارك وزيادة الوعي الذي يحتاج إلى البعد عن الشدة التي لن تطرح ثمارها إلا مع من اعتنق ذلك الفكر قصدًا من أجل حاجة في نفس يعقوب، أما مع البسطاء الذين تشربوا أفكارًا تشدد زينت على طبق فكر لعب على وتر عاطفتهم الدينية، وقدم لهم من بطريقة ظاهرها رحمة وباطنها من قبله العذاب، فحقهم علينا الرفق والصبر والإيضاح البعيد عن الخلاف والتراشق والحدة في النقاش الذي لن نجني منه إلا مزيد من تصلب الرأي ليستمر الدوران حول نفس الدائرة الفكرية الضيقة..

كلنا مسؤول في تنظيف كل فكر أو رأي أو اختلاف يؤدي إلى خلاف متطرف من أجل وطن شامخ ومجتمع متوازن.