هناك في البعيد البعيد، حيث لا وصايا ولا قضايا ولا حكايا ولا أيديولوجيا، هناك حيث صوت الموسيقى فقط تستمع وتستمع ثم تغلق عينيك لتصل إلى أبعد من كل هذا البعيد الذي تشعر به بعيداً عن «بؤس هذا العالم»، بعيداً عن «ورطة الوجود»، بعيداً عن «أن تكون أو لا تكون»، بعيداً عن معايير العادي والمألوف في لغة ليست بحروف، إنها فوق الحروف والكلمات واللغات، أقصى من بلاغات المتصوفة والغنوصيين، إنها الموسيقى يا «عِنِّين الأذن».

المقال ليس استعراضاً لأسماء سيمفونيات أو أسماء رواد الموسيقى، أو تاريخ الطرب عند العرب أو جدالات من لا يتذوق الموسيقى فيحرمها على من يتذوقها ويعي مداها في الروح، عجباً كيف تلوم من يصمت وحيداً مخبتاً لمنظر الغروب في أفق ممتد، فهل ستتهمه يا «عنين النظر» أنه يعبد الشمس، إحساس فريد تدفعه الموسيقى لأقصى مداه، دون الحاجة لأي نوع من «الكلمات»، هناك شيء فوق الكلمات في كل حاسة من حواس البشر، ففوق ما تبصره العين من حروف وكلمات تلتذ بقراءتها، نجد ما هو أبعد في لوحة فنية يرسمها إنسان، وفوق ما تكتبه اليد من حروف وكلمات نجد منحوتة بيد إنسان، وفوق ما تسمعه الأذن من أصوات نجد صوت الموسيقى، وفوق ما تحاوله لغة الجسد في رتابة اليومي ولقاءات الناس، يتربع الرقص كأقصى بلاغة للجسد، فالأذن تحتفل بنفسها عبر الموسيقى، والجسد يحتفل بنفسه بالرقص على أنغامها، والروح بين هذا وذاك تطوف وتطوف في مدى الكون الواسع.

الموسيقى معجزة الرياضيات أو أن الرياضيات معجزة الموسيقى، ومن لا يعرف علاقة الرياضيات بالموسيقى والعكس فلا يكمل قراءة المقال، فما زال ظنيناً على أذنه بأعمق مدى يصله المعنى في الروح، عندما يسمو على اللغة بحروفها وكلماتها فتدركه الموسيقى إذا قصر باع اللغة وتعثرت بلاغة الشعراء.

إن قال المتصوفة: «إذا اتسع المعنى ضاقت العبارة» فقل: «إذا اتسع المعنى كفتك الآآآآآآه على مقام الموسيقى الأوسع» الموسيقى خبب الجمال في سفر طويل، عدو الضابحات في معركة حاسمة، ثغاء مواليد الغنم في الصباح الباكر بحثاً عن ثدي الأم، الموسيقى إحساس بكل ما هو لا إرادي فيك «تردد الأنفاس في صدرك، رمشة عينك، دقات قلبك» الموسيقى ليست ترتيب الصوت في الزمن، بل هي حاصل ضرب الصوت في الزمن.

لا تحتاج الموسيقى منك أن تقطع تذاكر في دار أوبرا، بل تحتاج منك أن تلتقي صديقاً يقرئك أبجدية الموسيقى كما حصل معي، عندما دعاني صديقي قبل ربع قرن لأسمع ألحاناً عربية كلاسيكية فقلت له: لا أريد أن أنام، فتبسم وقال: لا بأس «أذنك بحاجة إلى تنظيف»، ومكث معي بضعة أسابيع يلتقيني ويسمعني على مهل هذا اللحن المجتزأ القصير، وذاك اللحن المجتزأ الأقصر، كأنما يعلم طفلاً مضغ الأكل مع أسنان لبنية، وفجأة سمعت «وشعرت» بالموسيقى فبكيت لأول مرة في حياتي من لحن كنت أراه مجرد «موسيقى تجلب الملل والنوم»، لقد كنت «أصم في الموسيقى»، تركني بعدها لأسمع الموسيقى والألحان فقفزت بسرعة لأسمع موسيقى كل الدنيا، دون أن تعنيني الأسماء، ورغم كل هذا الفرح «الطفولي» بداخلي فلست سوى صاحب «إحساس متوسط بالموسيقى»، عاجزاً حتى اللحظة عن امتلاك «أذن موسيقية»، فقد أدركت الموسيقى على كبر، وما مضى كنت ما بين «الترنم بالأشعار والطروق» لراعي غنم مثقف.

الموسيقى توصلك لأقصى معنى في العشق، وأقصى معنى في البطولة، وأقصى معنى في فصول عمرك من الربيع حتى الخريف، الموسيقى ليست درساً أبداً، إنها كالشعر، فدرس الموسيقى كدرس الأدب، قد تحفظ عشرات القصائد، ولا يولد بداخلك «الشاعر»، وقد تحفظ عشرات المعزوفات، ولا يولد بداخلك «الموسيقار»، الموسيقى هبة مثلها مثل الشعر، ويكفي المرء أن يرى في الموسيقى ما رآه المبصر في قصة «بلد العميان» لهربرت جورج ويلز عام 1904، ليستعيد مغامرته في تسلق الجبل من جديد مهما كلفه الثمن.

أخيراً كتبت المقال في ظلال أندريه ريو مشتركاً مع جورج زامفير في موسيقى شعرت معها أن كل ما سلف من المقال لم يف الموسيقى حقها، فكأنما وصفي لها لا يتجاوز وصف القائل: أنت كالكلب في الوفاء.. ولي كل العذر فإن أنا إلا راعي غنم من تهامة، أقصى الطرب عندي أنغام «الزير والتنكة والمفراز والبرميل» عند من يعرفها، وأظنني ارتقيت في هذا المقال «مرتقى صعباً على رويعي الغنم مثلي» فكيف لو عرفتم أني أستمع بالفرنسية ما لا أفهمه، لكنها الموسيقى «فوق اللغة» مع صوت وإحساس لارا فابيان في «جوتيم».. فلتعتبروها فرحة الطفل المتأخرة باكتشاف الحياة بعد علاج الصمم.