الاتفاق الإستراتيجي المتوقع بين الولايات المتحدة والعراق يوصف بأنه مفصلي بين مرحلتين، لكن من حدد هذا المنحى الحاسم هم الإيرانيون، لا الأمريكيون ولا العراقيون. ومهما قال هؤلاء في المزايا المجددة لتنظيم العلاقة بين الدولتين، فإنهم لن يتمكنوا من تجهيل واقع أن ضغوط ميليشيات طهران هي التي ثبتت الانسحاب الأمريكي على جدول أعمال حكومتَي بغداد السابقة وخصوصاً الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي. وما حصل ويحصل من هجمات على قواعد عسكرية تستضيف قوات أمريكية، أو على مطار بغداد والمنطقة الخضراء، كان تنفيذاً لإستراتيجية إيرانية مزمنة، إلا أنه جاء تطبيقاً لوعيد المرشد علي خامنئي بـ«طرد الأمريكيين من المنطقة»، انتقاماً لاغتيال الجنرال قاسم سليماني.

لم يكن متوقعاً تفعيل هذا التهديد إلا في العراق، حيث هناك تماس ميداني بين الطرفين، لكن طهران اعتبرت استهداف الأراضي السعودية ومنشآت النفط، بتغطية حوثية، جزءاً من الحملة نفسها. أما التحرك من سورية ضد الأمريكيين أو ضد إسرائيل فليس متاحاً من دون موافقة روسية، وأما التحرك من لبنان ضد إسرائيل فمتاح لـ«حزب إيران/‏ حزب الله» لكن مخاطره تكاثرت بفعل الانهيار اللبناني الداخلي. لذا يركز الإيرانيون على إدارة الاستعصاء السياسي، بالتواطؤ مع نظام بشار الأسد والسيطرة على القرار اللبناني، واستطراداً بإحباط أي مبادرة أمريكية أو سعودية لإنهاء حرب اليمن. بالطبع، كانوا يريدون أن تبادر حكومة بغداد إلى طلب انسحاب أمريكي فوري، لكنهم لم يحصلوا عليه حينذاك من عادل عبدالمهدي أو لاحقاً من الكاظمي. على العكس، اتبع الأخير منهجاً معقداً ومتعرجاً، قوامه أمران: أي انسحاب أمريكي يتم بتوافق ثنائي يضمن المصالح العراقية عسكرية كانت أو اقتصادية، وأي انسحاب يجب أن يعزز مكانة الدولة على حساب الميليشيات الموالية لإيران.

منذ بدء الحوار الإستراتيجي العام الماضي كان الجانب الأمريكي مستجيباً وراغباً في الانسحاب، وفقاً لشروطه، بل إنه أعاد انتشار قواته داخل العراق أو قلص عديده بنقل أقسام منه إلى كردستان ودول الجوار. لم تكن خيارات محسومة على الجانب العراقي، وكان عليه أن يجري تقويماً دقيقاً لاحتياجاته، خصوصاً أن المواجهة مستمرة مع تنظيم «داعش». يضاف إلى ذلك أن حكومة بغداد لا تستطيع تجاهل أن المكونين السني والكردي وجزءاً مهماً من المكون الشيعي يفضلون بقاء الأمريكيين كعامل توازن إزاء النفوذ الإيراني. فعلى الرغم من الثقة في الجيش العراقي وأجهزته، وهي كبيرة نسبياً، فإن الجميع يخشى تكرار تجربة ما بعد الانسحاب الأمريكي عام 2011 وما تخللها من تغول وتغلغل وزعزعة للقطعات العسكرية والأمنية، وصولاً إلى سقوط الموصل في أيدي «داعش» بسيناريو بدا منذ لحظته مريباً ومدبراً.

كانت واشنطن استبقت نتائج الحوار الإستراتيجي بعزمها على سحب القوات القتالية، وهو ما شرحه الكاظمي بالقول «إن قواتنا أصبحت جاهزة وقادرة» لكنها تعول على إسناد جوي واستخباري من «التحالف الدولي». أسهم التوافق الأولي على هذا الانسحاب في الحصول على «تهدئة» مؤقتة ومشروطة بأن تكون نتائج الحوار مطابقة لتوقعات إيران وميليشياتها، أي أن يكون «الانسحاب الأمريكي» كاملاً ومجدولاً زمنياً. وهذا ما لن يحصل وفقاً للرغبة الإيرانية، إذ إن الكاظمي ووزير خارجيته الكردي فؤاد حسين شددا على أن القوات العراقية لا تزال في حاجة إلى تعاون واسع مع الجانب الأمريكي يشمل التدريب والتسليح والتجهيز وبناء قدرات وتبادل المعلومات الاستخبارية، كما أن حكومة بغداد تريد أن تضمن أيضاً استمرار الالتزام الأمريكي بالدعم الاقتصادي والاستثماري، وبالتعاون في مختلف المجالات وفقاً لاتفاق 2008 الذي مهد للانسحاب الأمريكي عام 2011.

تدرك طهران أن هذه التفاصيل التقنية لن تؤدي إلى الانسحاب الذي تتوخاه، وبالتالي فإن ما تسمى «فصائل المقاومة» («الخارجة على القانون» بمصطلحات حكومة بغداد) ستواصل نشاطها ضد «الاحتلال الأمريكي». لم تنتظر ميليشيا «عصائب أهل الحق» نتائج الحوار بل أعلنت أمرين: أنها «لا تثق في الكاظمي في إدارة الحوار»، وأنها «غير معنية بمخرجاته»، وفي ذلك تعبير عن حقيقة التوجيهات الإيرانية، وتحذير بأن «التهدئة» شكلية. ما يزعج طهران فعلاً أن الحضور الأمريكي في العراق، مهما تقلص، يتيح تعزيز قدرات الجيش ومكانة الدولة، ويساهم في تطوير منطق داخلي مضاد لنفوذها وتهديد وجودي لميليشياتها. في المقابل، لا يخفي الجانب الأمريكي أن وجوده في العراق يحمل طابعاً ردعياً لإيران وميليشياتها، رغم أن إدارة بايدن لا تبرز هذ الهدف، كما أنه مرتبط أيضاً بوجوده ولو رمزياً في سورية، حيث تزداد الاحتكاكات سخونة مع الميليشيات على جانبي الحدود العراقية - السورية.

لا بد أن تكون الميليشيات («الحشد الشعبي» و«فصائل المقاومة») ملفاً أساسياً في الحوار الأمريكي - العراقي، إذ إن الوقائع الميدانية أظهرت صعوبة التمييز في ما بينها. فـ«الحشد» قوة يفترض «قانونياً» أنها جزء من القوات المسلحة، لكنها واقعياً لا تبدي ولاءً كاملاً للدولة بل تُعتبر اختراقاً إيرانياً يستحيل الوثوق به، لذلك ينبغي إعادة تعريف وظيفتها ودوافع وجودها ومبررات تمويلها وتسليحها حكومياً ما دامت ممارساتها تخدم عملياً المشروع الإيراني الإقليمي وتحابي فصائل «غير قانونية» مثل «كتائب حزب الله» أو«سيّد الشهداء». حين تحدثت ممثلة الأمم المتحدة (جينين هينيس بلاسخارت)، أخيراً، عن «ضرورة تحديد الفصائل المسلحة الناشطة خارج سيطرة الحكومة وتحميلها المسؤولية عن الهجمات التي تنفّذها» غضب قائد «الحشد» (الرسمي) فالح الفيّاض واتهمها بأنها «تجاوزت دورها المهني وأصبحت ورقة في الملعب السياسي العراقي».

يبقى أن واشنطن تقدم محاربة «داعش» كضرورة حاسمة لبقائها في العراق، فيما تدحض طهران هذه الذريعة باعتبارها هذا التنظيم «صنيعة أمريكية». لم يتوقف الأمريكيون، خصوصاً العسكريين، عن إدراج «دعم إيران للإرهاب» كأحد أهم الخلافات معها. كانت إدارة دونالد ترمب سلطت الضوء على إيواء قادة تنظيم «القاعدة» وكوادره في إيران، لكنها لم تتطرق إلى الدور الإيراني في نشوء «داعش» وانتشاره، مع أن لديها المعلومات، ولديها أيضاً شهادة أحد أعوان باراك أوباما، بن رودس، الذي قال إن رئيسه كان يعلم (عام 2014) بأن إيران تحرك «داعش» لكنه كان مهتماً فقط بالتوصل إلى الاتفاق النووي.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»