لم يعد يخفى على أي متابع لما يدور في المنطقة أن الدول الاستعمارية السابقة وجدت أن أرباحها تنحدر، مع أن مداخيلها في ازدياد، وظلت هي المصدرة لكل احتياجات دول العالم من سلع غذائية إستراتيجية منها القمح والسكر والأرز، وصناعات ضرورية منها السيارات والقاطرات والطائرات والسفن، وغالبية الضروريات المدنية، وكذلك العسكرية والبنى الرأسمالية - تجهيزات مصانع للدول الأخرى - تصنع هامشا يسيرا تطوَّر شيئا فشئيا فأضحت الدول المصنفة نامية، شبه منافسة للدول الخمس، نهضت المستهلكة وبدأت بوادر اكتفاء سلعي عوضا عن المستورد، ظلت التقنية الحديثة عصب الاتصالات والنقل والجهاز المصرفي.

وجدت دول الغرب أنها المستهلك الأكبر للنفط لوجود صناعات متقدمة تفوق احتياجاتها، كثفت طلباتها من الدول الصناعية التي نشطت في تطوير وسائلها لتتخطى ما قامت به دول خارج نسيجها، اضطرت بقية دول العالم لعجزها عن المنافسة للمنتجات الغربية التي تسوق سلعها وتدر عليها أموالا تفوق وتقل أو تزيد بالتوازي مع ارتفاع أسعار النفط والمواد الخام التي تستوردها من الدول الأقل نموا وتطورا منها، وصل إلى حد أقرب من تعادل الميزان التجاري بين الدول الصناعية الكبرى وبعض الدول الناشئة خاصة في شرق آسيا وعدد قليل من الدول العربية، وجدت تلك الدول، النفط الذي لا غنى عنه بالرغم من النفط الصخري.

البادرة المميزة عربيا رؤية المملكة 2020- 2030 انطلقت من منظور اعتماد خطط اقتصادية تقوم على قاعدة صناعية وطنية وعن طريقها يقل الاعتماد على النفط بصورة كاملة، ولذلك نشط الإعلام الغربي والأمريكي خصوصا عبر استغلال أي ظرف لم يرق لصناع القرار أرغوا وأزبدوا ووضعوا عراقيل وتبينوا أن لا سبيل ناجعا للمجازفة مع دولة بحجم السعودية وعلاقاتها الدولية وما تقدمه للعالم أجمع من أعمال خيِّرة، ولمكانتها الدينية وقوتها الاقتصادية وصرامتها في مواجهة الإرهاب أكثر من الدول الخمس التي باتت تستعين بالخبرات السعودية، ونجاحها في تبني خطط اقتصادية فاعلة، وباء إعلامهم بالفشل الذريع وانكشف من يموله ويؤلبه.

ثم عادت الدول الخمس للعب على التناقضات ببعض الدول العربية، وأن السبيل الأوحد أن تلعب على وتر التنوع العرقي والمذهبي والطائفي في دول ما يسمى بالربيع العربي، مستغلة ضعف القاعدة الشعبية لتلك الأنظمة ببعض دول الشرق الأوسط منذ انقلاب الملالي في إيران وتقاسمها الدور المخرب في سورية بالتعاون مع تنظيمات رفعت شعار الدين، شجعها وأسال لعابها طموح طهران للانقضاض على أربع دول عربية وسط تواجد للدول الخمس بتلك الدول، فقد فضلت أن تحتفظ طهران بنفوذها مداراة لنظام ولاية الفقيه ولإتمام الاتفاقية النووية التي وقعت 2015 بالتزامن مع قرار دولي 2216 قدموه طعما مع تبييت النوايا لعدم تطبيقه، بل وأقامت منابر القصد منها تغذية عملاء طهران، وتصويرهم على أنهم البديل الأنسب.

وعمدت الدول الخمس إلى الاستثمار الواسع في التسلح ومضاعفة إنتاجها وتطوير أسلحتها، مع عدم إخفاء أنها السند لإسرائيل وضمانة تفوقها النوعي، وباتفاق الدول الخمس الكبرى مهما اختلفت فيما بينها إلا أنها متضامنة حيال نظام الملالي، وكمثال قريب تتطابق وجهة نظر الديمقراطيين والجمهوريين في أمريكا في أن أعلى سقف يتم فرضه على انتهاكات إيران وتسببها في الوضع البائس لأربع دول عربية، عقوبات، بالتوازي مع هامش ليستمر نفوذ إيران كما هو، ويحظر تغييره، والشواهد كثيرة، لدرجة أن حرب إيران مع العراق لم يتم التعاطي معها على أن يتم إسقاط نظام ولاية الفقيه ووصل لحد اتفاق واشنطن وموسكو، الفرجة على الطرفين حتى تستنزف قواهما ثم حين أوشك الخميني على الإقرار بالهزيمة في العام السابع تمت صفقة إيران - كونترا أو إيران جيت - والطرف الثالث إسرائيل وانكشفت ببداية العام الثامن وبنصر هامشي استعاد العراق الفاو بدعم عربي وخصوصًا دول الخليج وأهمها السعودية، والدليل القاطع بهذه الأيام اختفت نبرة حقوق الإنسان والتمييز العرقي الذي يمارسه نظام ولاية الفقيه بالقمع والتنكيل بعرب الأحواز، وبالرغم من تجفيف الأحواز وتحويل ثروتها المائية الضخمة لمناطق أخرى في إيران، بعد أن منحت طهران مساحة واسعة تعد سلة خبز مناطق عدة لشركة تنقيب صينية عن النفط والغاز كون الأحواز أيضًا تحتوي على حقول نفط الغاز بنسبة تفوق 80 %، وحتى لا يغضبون طهران وتتعقد المفاوضات الخاصة بالاتفاقية النووية التي يبذل فيها بايدن جل طاقته وصلاحياته لتوقيع النسخة القديمة التي انسحب منها ترمب.. رغم معارضة كثير من النواب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي.

وكما هو جارٍ الآن منذ 2011 تتوسع اللعبة القذرة لصناعة الفوضى والتي مارستها الخمس الكبرى ولا تزال تقوم على إثارة الفوضى، هكذا كانت تلك الدول الكبرى تصنع الفوضى وبنفس الوقت تديرها ولا زالت وفقًا للخطوات التالية:

ـ تلميح إعلامي غربي عن كيفية لجم دعم السلع الاستهلاكية والتشويش على صناع القرار.

ـ إثارة حقوق الأقليات في ممارسة عقائدهم عبر مؤسسات إعلامية كبرى.

ـ العزف على وتر حقوق الإنسان وحرية الرأي دون مراعاة لقيم كل مجتمع وتقاليده وموروثه الديني.

ـ استنفار المنظمات الأممية لعقد لقاءات تستهدف دولا بعينها بكل شاردة وواردة عن حقوق الإنسان فيما بلدانهم تمارس مظالم عنصرية، عرقية ودينية.

ـ تهييج الرأي العام عبر عملاء يستهدفون أوطانهم «الإخوان»، وتمنحهم منابر إعلامية مختلفة ينفثون فيها سمومَ حقدهم على أوطانهم ممن منحتهم حق اللجوء لمعارضة لا يزيدون عن عدد أصابع اليد الواحدة.

ـ تبني وفرض وصاية عبر منظمات تديرها دول لها تاريخ استعماري يتبنون فيها قضايا لا علاقة لها بالسواد الأعظم من الدول المستهدفة.

ـ استغلال أي اختلافات بين دولتين والقيام بزيارات للتدخل بدعوى حلها تحت ستار الخشية على مصالحهم بكل دولة.

ـ نداءات بضبط النفس والشعور بالقلق الكذوب والدعوة إلى مشاورات ثم حوارات ومفاوضات في بلد ثالث، مع إقحام الأمم المتحدة فيها، وأولئك المتبنون للمفاوضات هم بالأساس العمود الفقري للأمم المتحدة.

ـ القيام باتصالات سرية بين طرفي الخلاف وعقد اتفاقيات استثمارية تحت ستار أن لا علاقة لها بالسياسة بل كل دولة لها حق سيادي في علاقاتها التجارية والاقتصادية.

ـ بخط موازٍ تتحرك أجهزة استخباراتها باستقطاب أقليات مشحونة طائفياً أو قبليًا من دول ذات اقتصاديات متواضعة وتزودها بأسلحة، تسربها لدول أخرى تدور فيها حروب إثنية وتقيم لها مقرات تدير منها تنظيماتها ومراكز تدريب مستغلة وضع الدول الأمني والسياسي، وتمنح أدواتها إقامة في فنادقها تستخدمهم كرأس جسر لزيادة رقعة التوتر في الدول المجاورة.

ـ تبعث خبراء لتقييم الموقف، ثم لاحقًا مستشارين عسكريين، ثم تقيم لها مراكز غير ملفتة لتتحول لقواعد ثابتة وتثير خلافات بين تلك التنظيمات وتبدأ صراعاتها، وتنشط السوق السوداء للسلاح، مما يحتم على الدول التي تعاني من اقتتال بفعل تلك التنظيمات أن تبرم معها عقود صفقات أسلحة ضخمة، ويتردى معها اقتصاد تلك الدول وتلجأ لصناديق الإقراض، وتتولى تلك الدول تأمين ضمانات مالية لتسهيل إتمام القروض طويلة الأجل، ثم تطالبها صناديق الإقراض بإصلاحات اقتصادية، لتحقيق ما جاء في البند (1)، وتلح بإجراء انتخابات مفبركة لفوز حزب أو جبهة لتتولى الحكم وتكون عندئذ تحت إشرافها وتبعيتها.

ـ تتجه إلى الخاسرين بصورة غير مكشوفة بالتحريض على من تسلم الحكم، ويتم بسط نفوذها على مناطقها وفقًا لطائفتها، مما يستثير طائفة كل طرف بالشحن العقائدي والسياسي وتوريطها في مستنقع بلدان أصبحت ميدانًا لكل من هب ودب، بعد أن تدمر البنى التحتية تلك البلدان وتستنزف مواردها، ويغادر قطاع كبير من شعوبها بين نازح ولاجئ، وتمتلئ السجون والمعتقلات وينفلت الأمن، يبادر مجلس الأمن بتحريك أي دولة لطلب عقد جلسة للمجلس وتعقد جلسات وجلسات.. ثم يتدخلون بعمليات تفاوض تستمر لسنوات هم فيها الحكم والمحرض والمسلح ومستغل ثروات تلك البلدان.

فرض حلول ترقيعية تستنزف الطرف الأقوى لفترة ثم تضغط على الأضعف وتستمر اللعبة إلى أن يصل الأفرقاء إلى مرحلة التشبع من النزيف والإرهاق.

ـ مرحلة إعادة الإعمار.. بعد أن اتخمت محافظ مصانع أسلحتهم ودرت ضرائب باهظة لحكوماتها، تنشط شركات البناء والإعمار بالتوازي مع دعوات لانتخابات عامة، تستهلك أعوامًا في مشاورات ومفاوضات لجمع الأفرقاء.

ـ الانتقال إلى مناطق يشتم منها بؤر تأثَّرت بما جرى لدول أخرى، وهكذا دواليك تستمر العاصفة دون كلل أو ملل، وتستمر خطط الدول ذات الإرث الاستعماري المباشر سابقًا لتحسين اقتصادها وتطوير صناعاتها.. وهلمجرا.