بيَّنت في المقال السابق، أن (الصحوة السابقة) قُطع منها ما ظهر على السطح فقط، وبقيت جذورها العميقة والقوية (الصحوة العميقة)، وأن استمرار بقاء هذه الجذور مؤذنٌ بعودة الصحوة من جديد بقالب مختلف (الصحوة الارتدادية)، إذ إن الصحوة فكر ممتد، مثلما هي فعل، وإن كنا قد نجحنا بإزالة أثر الفعل، بجدارة ومهارة متناهية، فإنه يجب إلحاق الفكر الصحوي بالفعل الصحوي المندثر، حتى لا تحدث ما لا تحمد عقباه.

واستكمالًا للحديث، وحتى يكون وفقًا لإطار مكتمل ومتماسك، أرى أنه من الأهمية بمكان قبل الحديث عن ماهية (الصحوة الارتدادية) في تمظهراتها، وتموضعاتها، أن نتحدث عن كيف أزيل الفعل الصحوي المتطرف؟!

وإجابة عن هذا السؤال، فإن من أهم الجوانب التي أبدعت بها الحكومة السعودية في سبيل القضاء على التطرف، هو إضفاء الطابع الإنساني على كل أفعالها وعملياتها وقرارتها، وفي مقدمة ذلك ما أولته من عناية فائقة، وتقدير يفوق الوصف -وهو مستحق- للتضحيات التي قدمها رجال الأمن الذين خاضوا ويخوضون بكل شرف المعركة ضد الإرهاب والتطرف، حينما احتضنت أبناء شهداء الواجب، وأسرهم واعتنت بالمصابين منهم، كذلك العناية الفائقة بالموقوفين على ذمة التحقيق في قضايا الإرهاب والتطرف، وهذا النبل والمروءة مما يطول وصفه.

أما على الصعيد الأمني والسياسي، فقد كانت الجهود لمكافحة الإرهاب والتطرف لا تخفى على أي متابع، غير أن التركيز السياسي والأمني على تدمير منابع التطرف المنتجة للإرهاب، بعد تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أيده الله- الحكم في أوائل عام 2015، ثم تدشين رؤية 2030 في الثلث الأول من عام 2016، ثم تولي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -أيده الله- ولاية العهد في منتصف عام 2017، نقل المعركة مع التطرف الصحوي إلى نهايتها بشكل مبرم على مستوى الفعل، والمظاهر المتطرفة التي أعاقت المجتمع السعودي على مدى عقود ثلاثة أو تزيد، والذي بدوره -أي التطرف الصحوي- شَلَّ بشكل شبه تام نصف المجتمع السعودي (المرأة)، وأشغل غالب النصف الآخر بقضايا بعيدة كل البعد عن بناء الإنسان السعودي لذاته ووطنه.

كان خادم الحرمين الشريفين -أيده الله- واضحًا ودقيقًا في عمله ضد التطرف الصحوي، وهو يمتح من عمق معرفي وخبراتي عريض وممتد في مكافحة الفكر المتطرف -ولهذا حديث قادم بإذن الله-، حينما ربط مستقبل بلاده بمدى تمسكها بالدين الوسطي المتسامح الذي لا يميل لتطرف المتشددين ولا إلى انحلال المتهتكين، وكان أن انطلقت الجهود بعدها بتوجيهاته -أيده الله- يقودها أمير الحلم السعودي، سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، لتعتمد على الانفتاح المنضبط على جميع الأديان والتقاليد والشعوب، والذي يقول لكل الدنيا بكل وضوح: (أهلًا بالعالم).

وأوجز فيما يلي أهم الجهود والأدوات التي بفضلها زال خطر التطرف الصحوي في السعودية، وسيكون الحديث فيما دون ما أحدثته رؤية المملكة 2030، والتي وظفت الجانب التنموي كعنصر فاعل للقضاء على التطرف، وهذا لأننا تحدثنا عنها في أكثر من مقال:

أولًا: اتسام الخطاب السياسي السعودي، في مضمونه ومحتواه دائمًا بالوضوح والاتزان، لإبراز نهج وقيم المملكة العربية السعودية الثابتة والراسخة في مكافحة التطرف والإرهاب بكل أشكاله الأيديولوجية الدينية والعرقية والطائفية.

ثانيًا: عملت الدولة عبر أجهزتها الرسمية على تجفيف منابع الإرهاب واجتثاث جذوره من خلال إعادة تنظيم جمع التبرعات للأعمال الخيرية التي قد تستغل لغير الأعمال المشروعة.

ثالثًا: في يوليو 2017 أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أيده الله-، مرسومًا بإنشاء هيئة جديدة مستقلة للاستخبارات ومكافحة الإرهاب بمسمى (رئاسة أمن الدولة)، وقد نجحت الرئاسة في التركيز على مكافحة التطرف والإرهاب أمنيًا واستخباراتيًا، ومراقبة تمويله ماليًا.

رابعًا: إنشاء مركز (اعتدال) لمكافحة الإيديولوجية المتطرفة، بالتعاون مع الحكومات والمنظمات المعنية، وكذلك إنشاء مركز «فِكر» مركز الحرب الإيديولوجية، التابع لوزارة الدفاع السعودية.

خامسًا: تُعد السعودية من أكثر الدول التزامًا بالمواثيق العالمية؛ فقد انضمت وصادقت على الاتفاقيات الست عشرة لمكافحة الإرهاب (13 اتفاقية و3 بروتكولات إضافية)، تحت مظلة الأمم المتحدة، كما أنها تشارك بفعالية في اجتماعات قمم العشرين (G20)، وتعمل باستمرار مع فريق العمل المالي (FATF)، والذي اجتازت تقييمه في عام (2004).

سادسًا: تصدت هيئة كبار العلماء في المملكة بصفتها أكبر مرجعية دينية في المملكة لخطابات وفتاوى التطرف والإرهاب وأصدرت عددًا من الفتاوى والبيانات والقرارات لبيان الموقف الشرعي الصحيح من التطرف والإرهاب، ومن أهمها تجريم جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية.

سابعًا: صدور نظام مكافحة جرائم الإرهاب وتمويله، ولائحته التنفيذية في 2018.

ثامنًا: قيام (رئاسة أمن الدولة) في المملكة العربية السعودية، ممثلة في (الإدارة العامة لمكافحة التطرف)، و(خلية الاتصال التابعة للتحالف الدولي ضد داعش) في عام 2019، بإصدار مذكرة مشتركة، بعنوان: (مذكرة الرياض -لندن الخاصة بالممارسات الجيدة في مجال مكافحة رسائل التنظيمات الإرهابية: داعش نموذجًا)، وهي أول مذكرة استرشادية يصدرها التحالف، وقد حددت المذكرة مجموعة من مجالات العمل باعتبارها مجالات أساسية في مكافحة التطرف، ومن أهمها:

1. جمع أفكار وتحليلات متعلقة بطريقة استهداف الجماعات الإرهابية للفئات المعرضة للتأثر.

2. دراسة ومعالجة العوامل الدينية والاجتماعية والنفسية المتعلقة بالسلوك المتطرف.

3. تحميل شركات التواصل الاجتماعي المسؤولية عن إزالة المحتوى المتطرف من منصاتها.

4. وضع تشريعات تخص ألعاب الفيديو العنيفة لمنع تعرض القاصرين للعنف المتطرف.

تاسعًا: إنشاء الهيئة الوطنية للأمن السيبراني، والإعلان عن نظام جديد يوسع نطاق الأنشطة المعرفية كجرائم «إرهابية».

عاشرًا: أخضعت قانون مكافحة الإرهاب لتعديلات متتالية.

حادي عشر: إنشاء محكمة خاصة للنظر في قضايا الإرهاب، بمسمى المحكمة الجزائية المتخصصة.

وغيرها الكثير، على مستوى الوزارات والهيئات، والمؤسسات الأهلية.

أخيرًا، وزارة الإعلام يمكن أن تدخل كل بيت سعودي، ووزارة التعليم يدخلها فرد واحد على الأقل من كل بيت سعودي، هل هذا كافٍ لتصور مدى القوة التي تملكها هاتان الوزارتان للتغيير؟! مع التقدير لمجهودات مسؤوليها المخلصين.