تخطر على بالي هذه المقولة «العلم المستقر، جهل مستقر» لمحمد بن عبد الجبار النفري في كتابه «المواقف»، تحديدًا كلما تقدم أحد من المفترض أنه مثقف أو ربما يرتدي عباءة الثقافة ويجادل في فريضة الذبح في موسم الحج!.

بالطبع الاعتراض يكون مغلفًا بمفردات أو جمل لطالما مرت علينا من قبل منتسبي جمعيات الرفق بالحيوان في الغرب؛ الذين لا يعرفون أصلًا شيئًا عن الإسلام، ولكن الغريب حقًّا ممن هم بالأصل مسلمون، وبدلا من البحث في الموضوع من ناحية إنسانية والتعرض بالبحث والدراسة لما قد تواجهه الماشية من معاملات مخالفة لما جاء في القرآن والسنة النبوية، يتبعون خطى من يجهلنا ويرددون كلامهم.

من يريد أن يعترض أو يظهر أنه إنسان متحضر، فليتقدم مشكورًا، ولكن أولا عليه أن يقرأ ويتعمق في كل ما يخص مناسك الحج خاصة الأضحية، وكل ما جاء في هذا الباب من معاملات وطرق ومعايير التطبيق، وعليه فلا يحق لمن يقف على حافة المعرفة أن يعترض، التحضر ليس الاعتراض، التحضر هو علم وبحث وتفعيل التفكير.

لست داعية ولا أدعي العلم بكل ما جاء به ديننا الحنيف، ولكني على الأقل لا أسلم عقلي لأحد وأبحث لأنني أعلم بمدى جهلي وقلة مخزون العلم عندي بهذا المجال أو غيره، أبحث عن الأسباب والحكمة والتفسيرات العلمية، وأحيانًا قد لا أجد إجابة شافية ولكن هذا لا يجعلني أتراجع أو أرفض بل ألتزم بما أنه نزل في كتاب الله العزيز الحكيم فهو أمر ووجب علي اتباعه، واستمر في البحث ومع مرور الزمن تظهر لي الأدلة وكأنها هدية من الله سبحانه وتعالى في شكل دراسة موثقة أو اكتشاف معترف به عالميا، المهم وجدت أنني طالما أبحث لم أخذل من رب العالمين والإجابة تأتي بشكل أو بآخر حتى ولو بعد حين.

وأستغرب أيضًا ممن تدهشه أو لنقل تصدمه أرقام الذبح في أربعة أيام مع العلم أنها في الأصل للتوزيع على الفقراء والمساكين والمحتاجين والأقرباء، هذا إن اطلع على الإحصاءات بالأصل، هل بحث في مجال ذبح الماشية عالميًّا من أغنام وبقر أو حتى اطلع على أرقام وإحصاءات بما يتم ذبحها يوميًّا؟! لعل وعسى تختفي دهشته! لقد ذكرت وزارة الزراعة الأمريكية على موقعها أنه تم ذبح 9.76 مليارات حيوان بري في عام 2020، وفي موقع الأمم المتحدة نشر أنه يتم ذبح أكثر من 800000 بقرة من أجل الغذاء يوميًّا! وفي تقرير عن إساءة معاملة الماشية في إيطاليا جاء في تقرير أن استهلاك لحم الضأن يحظى بشعبية خاصة في عيدي الفصح والميلاد، وأن المزارعون اعترفوا أنه في أوقات أخرى من العام، عندما يقل طلب المستهلكين على لحوم الضأن، يقتلون الحملان حديثي الولادة، لأنه ليس من المنطقي من الناحية الاقتصادية تربيتها! هذا ولمن يريد معرفة المزيد عن الأعداد أو تقارير إساءة معاملة الحيوانات في كثير من الدول التي تعتبر أنها متحضرة، قبل وخلال الذبح فالإنترنت بين يديه يستطيع أن يبحر ويبحث ليتأكد.

هذا لا يعني أننا في العالم الإسلامي لا نسيئ معاملة الحيوانات! فلقد قرأت مؤخرًا دراسة لسارة عبدالرحمن نشرتها عام 2017 في مجلة أجنبية علمية محكمة تقول فيها إنه بالرغم من أن الإسلام صريح فيما يتعلق باستخدام الحيوانات لأغراض الإنسان، وأنه تم وضع قواعد للذبح الإنساني، تتعرض الحيوانات في كثير من البلدان الإسلامية للضرب أو المعاملة بغير شفقة أثناء الإنتاج، والتداول، والنقل، والذبح، وأضافت بأنه لا يدرك العديد من المسلمين والزعماء الدينيين الإسلاميين القسوة التي تُلحق بشكل روتيني بالحيوانات أثناء النقل والذبح، وعليه فهناك حاجة ملحة لتوعية جميع المسلمين بتعاليم الرفق بالحيوان في القرآن والأحاديث، كما أنه هناك حاجة إلى حملة لتعريف الزعماء الدينيين بالقسوة الحالية التي تحدث أثناء النقل والذبح. هنا أدعو كل من لديه اعتراض أن يوجهه إلى المسؤولين للضغط عليهم لمتابعة الطرق التي يتم في التعامل مع الحيوانات، أليس هذا ما يبحثون عنه؟ أليس هذا ما يضايقهم؟ أليس هذا ما يعذب ضمائرهم الحساسة؟

إن العلاج المباشر للجهل هو المعرفة، وليست أي معرفة، فالإصرار على بقاء الحال على ما هو عليه ليس سوى «علم مستقر» يؤدي إلى «جهل مستقر»! يقول المؤرخ الأمريكي دانيال بورستين: «يعتقد بعض الناس أنهم يستطيعون مساعدة الآخرين بمعرفة غير كاملة، ولكن هذا لن يؤدي إلا إلى مشاكل أعمق من إيجاد حل»، وهذا ينطبق على مساعدة النفس أيضًا، فبعض الناس يتوقفون عن البحث عن المزيد من المعلومات، خاصة إذا كانوا متعجرفين وممن يعتقد بأن لديهم كل ما يحتاجون إليه، وأحيانًا حتى بعد أن يتم لفت نظرهم إلى ما ينقصهم، فإن رفض البحث والتحقق ينقل الفرد منهم من مرحلة نقص المعرفة إلى مرحلة الجهل.

كلنا نفتقر إلى المعرفة بدرجات متفاوتة، لكن المشكلة ليست هنا، ففي زمن الانفجار المعرفي وثروة الموارد المتاحة للجميع هنالك من يواصل في البحث، والتعلم، والتأمل، والتفكّر، والاستشراف، والاستقصاء، بينما هنالك للأسف من يصر على الاكتفاء بما يمتلكه من معرفة.