نشأت في إنجلترا بالقرن الثامن عشر لهجة قياسية بين أفراد الطبقة العليا، تعرف بالنطق الموروث «Received Pronunciation»، واستمرت بصفتها لهجة محايدة، يستعملها الأفراد في المناصب القيادية مثل أفراد العائلة المالكة والأساقفة والأطباء والقضاة، ولكن الحفاظ عليها أخذ طابعا طبقيا يميز أبناء الطبقة العليا عن أبناء الطبقة الدنيا، الذين يتحدث معظمهم اللهجات الإقليمية.

مع مرور السنين لم تعد هذه اللهجة الفخمة الموروثة من الأسلاف حكرا على أفراد الطبقة العليا، حيث أصبحت تلك اللهجة صوت الشعب البريطاني المثقف بطوائفه كافة، واللهجة الرئيسة للعلم والثقافة، واللهجة التي تميز قناة «B.B.C» البريطانية الشهيرة والأفلام البريطانية التاريخية والمعاصرة، فاللغة هنا تلعب دورا محوريا في ربط الأجيال بعضها بعضا مهما تقادم الزمن. لا يقتصر ذلك على الجانب الصوتي للغة، ممثلا في اللهجة، بل يتعداه نحو الاهتمام بتركيب الجملة الصحيح والإملاء والجانب البلاغي والتعبيري.

وللكاتب البريطاني في صحيفة التلجراف «سيمون هيفر» كتاب مهم يحمل عنوان «Strictly English: The Correct Way To Write, And Why It Matters»، يناقش فيه ظاهرة تفشي اللحن النحوي وشيوع الأخطاء اللغوية بين زملائه الصحفيين، وحتى بين عامة الناس، ورغبته كانت منصبة في تحقيق الدقة والوضوح في الكتابة، بالإضافة لتحقيق الغرض الأهم، وهو الحفاظ على الشكل الأكثر نقاء للغة الإنجليزية بشكلها المعياري، الذي يمثل الهوية البريطانية المتوارثة من عصر وليام شكسبير حتى مطلع القرن العشرين.

موقفنا من اللغة يحدد غالبا ميولنا الفكرية والثقافية، وحتى انتماءنا الديني والحضاري، لذا فإن الحفاظ على «نقاء اللغة» له طابع سلفي، وهذا ما يؤكد أن المنهج السلفي في الحضارة العربية الإسلامية في جوهره ليس إلا منهجا لغويا، يقوم على إشكالات اللغة، فالعودة لعصر السلف ليست في حقيقتها إلا عودة للغة السلف، والاعتماد على ما يعرف بـ«فهم السلف»، يعني - ببساطة - فهم السلف اللغوي لبعض النصوص الدينية التي تمثل ركيزة لاستنباط الحكم الشرعي، وأي عودة لعصر الأسلاف غير ممكنة منهجيا إلا من خلال بوابة اللغة.

أين يكمن الجانب الإنساني في المنهج السلفي؟ يكمن أيضا في اللغة. اللغة الإنسانية التي يتحدث بها الناس البسطاء في شعرهم وأدبهم تلك اللغة المتداولة بين الأعراب ورعاة المواشي في الصحاري الشاسعة والمقفرة. هذه اللغة الإنسانية قادرة على أن تكون وسيطا لغويا لفهم التشريع الإلهي، لفهم كلام الله الموحى به إلى الرسل والأنبياء، والكشف عن المعنى المتضمن الذي تمت صياغته في اللغة الإنسانية، وأصبح واضحا ومبينا من خلال وسيط اللغة.

العودة إلى عصر السلف ليست - في الحقيقة - عودة إلى لغتهم الإنسانية التي من خلالها عرفوا المعنى الظاهر للنصوص المقدسة، وعرفوا من خلالها الحلال والحرام. إن اللغة هي الأداة الأكثر كفاءة للتعبيرعن أفكارنا ومشاعرنا، لذا أعتمد الفقهاء من خلال المنهج السلفي على دراسة اللغة كما يستعملها الناس في ذاك الزمان والمكان بعينه، أي اللغات الحية التي يمكن أن يجد الباحث من يتكلمها بالسليقة. لذلك أصبحت دراسة النحو العربي ذات أهمية كبيرة، لفهم المجتمع في ذاك العصر. يقول اللغوي البريطاني ديفيد كريستال: «إذا أردنا أن نفهم كيف يعبر الناس عن أفكارهم ويفهمون بعضهم بعضا، فإننا نحتاج إلى دراسة طريقة بناء الجمل، ودراسة بنية الجمل هي ما نسميه القواعد».

اللغة العربية الفصيحة هي النموذج الأعلى واللغة المشتركة التي لا تنتمي صفاتها أو عناصرها لطبقة اجتماعية معينة أو بيئة محلية محددة، فهي لغة السلف ولغة الناس والمجتمع بطوائفه كافة، لغة الظاهر التي من خلالها نتعرف على الحلال والحرام، وما يرشدنا إلى الجنة ويعصمنا عن النار، وبواسطتها يتجلى لنا النص القرآني واضحا جليا. في رواية «قواعد العشق الأربعون»، تقول الروائية التركية أليف شافاك، على لسان بطل روايتها «شمس التبريزي»، الدرويش الصوفي المتجول: «كل قارئ يفهم القرآن الكريم فهما مختلفا يتفق وعمق إدراكه. ثمة أربعة مستويات من الفهم. المستوى الأول هو المعنى الظاهري، وهو المستوى الذي يقتنع به أغلب الناس. أما المستوى الثاني، فهو المستوى الباطني، أي المستوى الداخلي».

وفي أحد حوارات «التبريزي» في الرواية، يقول متحدثا عن المستوى الرابع للغة: «المستوى الرابع للغة لا يمكن الحديث عنه، فثمة مرحلة تخذلنا اللغة بعدها، فعندما تتقدمين إلى منطقة الحب، لن تكوني في حاجة إلى اللغة». «المعنى الظاهر» الذي يقصده «التبريزي» هو المعنى الذي تستوعبه اللغة الإنسانية وفق أساليب الناس وتعابيرهم اللغوية، ووفق ما نشهده في أشعارهم وأدبهم الإنساني، فاللغة الإنسانية قادرة على كشف الحُجُب عن المعنى، وإتمام التجربة الروحية دون أي وسيط آخر، باستثناء النص المكتوب بلغة يدركها الإنسان البسيط، فهي لغة واضحة بلا أسرار وغموض.

يقول المفكر المصري نصر حامد أبو زيد: «إذا كان فهم الفقهاء - أهل الظاهر - للخطاب القرآني لا يتجاوز حدود الدلالة الوضعية للغة في بعدها الإنساني، فالعارفون وحدهم هم القادرون على النفاذ إلى ما يشير إليه الخطاب الإلهي من معان ودلالات إلهية عميقة باطنة».