الحرب العالمية على الإسلام وأهله حقيقة، يُمَاري فيها القليل من الناس ويجحدونها، بذرائع مهما كثرت لا تغني من الحق شيئاً، فالجميع يرى ويسمع هذا الاحتشاد العالمي الذي لا ينفك يستهدف المسلمين ودينهم، حرباً وتشويهاً وتفريقاً في كل المجالات وأينما وُجدوا، وهو أمر ليس وليد التاريخ المعاصر، بل قديم قِدَم الإسلام وَقِدَم أعدائه.

لكن الطَريف أن حرب الإسلام من خارج أهله، طيلة التاريخ وحتى وقتنا الحاضر، لم يكن ليكون لها الأثر القوي، لولا الحرب على الإسلام من داخل أهله، وسوف أتحدث بإيجاز عن بعض أصناف العدوان على الإسلام، التي يتعرض لها الدين من أبناء المسلمين أنفسهم، وكل صنف منها يستحق دراسة خاصة وليس مقالاً.

وأولُ هذه الأصناف ظهورًا، ولا يزال منذ ظهوره وحتى يومنا هذا، أكثرَها جنايةً على الإسلام وأهله، هو عدم الالتزام بمنهج علماء الأمة الراسخين في العلم بأحكام التكفير والجهاد و لزوم الجماعة، إذ كان خروج الخوارج الذين خالفوا أئمة الدين في هذه القضايا، بدءًا من عصر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يُعَدُّ خلافُهم أقسى ما فرق الأمة، وتسبب في ظهور البدع والانحراف فيها، وفي عصرنا الحاضر يُستخدم هذا الفهم السقيم وأهله في إثارة الصراعات داخل أهل السنة والجماعة، وفي تشويه صورة الإسلام والمسلمين في خارج الأمة، لتحول دون انتشار الدين ودون التعاطف مع معتنقيه، بل لتُجَفِّل ضِعَاف الآباء من تربية أبنائهم على التدين، بزعم أن مآل هذه التربية هو التطرف والغلو، والقناعة بهذا المآل ربما تصل إلى المسؤولين عن التربية والتعليم في العالم الإسلامي وغير الإسلامي، فيحدثُ جراء ذلك ما لا تحمد عقباه، من إلغاء مناهج الدين أو تقليصها أو تحريفها.

ومن هذه الأصناف ما يقع لدى طوائف من المثقفين، والكتاب والفنانين، والقصاصين والإعلاميين، من ضعف الاعتزاز بالدين وشرائعه وتاريخه، فيقومون ببث الشُّبَه والأكاذيب على شرائع الدين، سواءٌ منها ما هو متعلق بالأُسرة والمرأة والطفل، أو ما هو متعلق بالحدود الشرعية أو المتعلقة بالعبادات، أو الاقتصاد أو القضاء أو نوافل العبادات، أو آلشُّبَه المتعلقة بتاريخ الإسلام، بالتشكيك بالصحابة أو قادة الفتوح الإسلامية، أو قادة الانتصارات الإسلامية، أو التشكيك بالإنجازات الحضارية للأمة الإسلامية.

وتكثر هذه الشبه ويتم الترويج لها في وسائل الإعلام الكبرى أو وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، فتكون نتيجتها انتقال مرض ضعف الاعتزاز بالدين، من طائفة صغيرة من المنهزمين حضارياً من هؤلاء الفنانين، وكتبة المقالات ومن شاكلهم، أو المصابين بالنفاق أو المبتلين بمرض الغرور المعرفي، ينتقل هذا المرض إلى طائفة أعرض من الفتيان والفتيات، الذين يكثر بينهم من يتقبلون ما يُلقَى إليهم دون بحث أو تمحيص، لعجزهم عن ذلك ولانغماسهم في الأجواء التي تشيع اليوم إعلامياً من الاستهانة بالدين وشرائعه وعلمائه تحت شعارات شتى.

ثم يأتي صِنف المُتَعَالمين، وهم طائفة ممن حَصَّلُوا شيئاً من العلم الشرعي، أو الثقافة العالية وإن لم تكن شرعية، لكنهم مصابون بأزمات نفسية خطيرة، فمنهم المنهزمون حضارياً أمام الثقافة الغربية، ومنهم المغرورون ثقافياً، ولديهم طُمُوح بأن يوصفوا بكونهم مجددين في الدين، أو منفتحين على الآخر، أو غيرها من الألقاب التي يُغَازِلُ بها الإعلامُ أمثالَ هؤلاء، فتتثنى أعطافهم تيها وعُلُوَّا، ومنهم أصحاب ماض متشدد تكفيري إرهابي، ويسعون للانتقام من أنفسهم وتاريخهم القديم، أو غير ذلك من الأمراض التي تُلْجِؤهم إلى التعالم الذي يكون على حساب دينهم.

وهؤلاء تبعاً لنفسياتهم المتعالمة، غالباً يختارون ميدان قضايا أصول الفقه، فتجد قضاياهم هي إنكار السنة النبوية جملة إما صراحةً كمن يسمون أنفسهم بالقرآنيين، وإما عن طريق الطعن في أحاديث الأحاد، وأعظم مصنفاتها كالبخاري ومسلم، ليصلوا بطريق غير مباشر إلى إنكار السنة جمعاء، لكنهم يختارون الحرب على الأحاد، إما جبنا عن إظهار حقيقتهم، أو لأن مرحلة التصريح بإنكار السنة لم تحن بعد في زعمهم، وقليل منهم يفعل ذلك جهلاً غير معذور.

ومن قضاياهم أيضاً إنكار حجية إجماع الأمة، ويخلطون عمداً بين خلاف العلماء في إمكانية انعقاد الإجماع بعد عصر السلف، وبين حجية إجماع السلف، وهو خلط في غالبه متعمد للاستقواء بأقوال العلماء، كي يغرروا بها بالقارئ والمستمع من عامة الناس، وغير أهل الرسوخ في العلم.

والمضحك المبكي أن هؤلاء المنكرين لحجية الإجماع، هم أنفسهم من يستدلون بالخلاف بين العلماء للتهوين من شأن بعض المحرمات المختلف فيها أو إباحتها، وكذلك لاستباحة بعض الواجبات المختلف فيها.

وبذلك تجد أن إجماع العلماء ليس حجة عندهم، واختلاف العلماء يفقد النصوص حُجِّيَتَها بزعمهم، في تناقض صارخ لا يستحون منه،لأن حقيقة أمرهم أو مآله: إهدار النصوص الشرعية التي إن أجمع العلماء على مقتضاها ردوا الحُكم المستنبط بعدم حجية الإجماع، وإن اختلفوا في مقتضاها ردوا الحُكم بأنه مختلف فيه.

ومن قضايا هؤلاء المتعالمين، تقديم أهوائهم على النصوص الشرعية، تحت مسمى العقلانية أو محاكمة النصوص إلى العقول، فإذا عارض النص أمراً يهوونه، زعموا أن هذا النص مردود لمخالفته العقل، كما يصنعون في نصوص حجاب النساء أو مخالطتهن الرجال الأجانب، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو إقامة الحدود كجلد السكران ورجم المحصن، وقطع يد السارق، أو تنصيف الميراث للمرأة في بعض أحواله، كما يردون النص لمخالفته مزاعم الحُرِّية كقولهم في إنكار حد الردة.

ومن قضايا المتعالمين ردهم لما لا تهوى أنفسهم من النصوص، بزعم مخالفتها لمقاصد الشريعة مع أن مقاصد الشريعة هي نفسها ثبتت بالنصوص، فكيف يُرَدُّ النص بما ثبت بالنص؟ والحق أن النصوص الصحيحة من المُحَال أن تخالف مقاصد الشرع الكُلِّيَّة، لكن بعض النصوص لمَّا خالفت بعض أهوائهم ألبسوا أهواءهم لباس المقاصد، وردُّوا بها ما خالفها من النصوص.

ومن هذه الأصناف أناس ضاقت صدورهم بيسر الإسلام وسماحته فتحمسوا للبدعة والخرافة وسعوا إلى ترويجها على المسلمين، بنسبتها إلى الإسلام، وذلك تارةً بالعبث بالنصوص الشرعية بالتأويل الباطل، وتارة بانتحال نصوصٍ وادِّعاء صحة نسبتها للشرع، وكان من أثر ذلك أن امتلأت ساحة المسلمين بالمذاهب المنحرفة، التي زاحمت الإسلام الصحيح النقي وقللت العاملين به، والأنكى أن دُعَاة البدعة تجدهم أحرص على حرب الإسلام الصحيح النقي، وأقدر على الاتحاد ضده من دعوة غير المسلمين أو الاتحاد ضد أعدائه، ونتذكر من أمثلة ذلك في التاريخ الإسلامي، أن ما فعلته سيوف أبناء المذاهب المنحرفة بعامة المسلمين من أهل السنة لا تقل نِكَايَةً عما فعله الصليبيون إن لم تَفُقها، ويُعيد التاريخ نفسه لنرى ما يُفعل اليوم بالمسلمين من القتل والتشريد بدعاوى طائفية، أعظم مما يحصل لهم من الصهاينة والصليبيين.

ومن هذه الأصناف أولئك الذين ابتعدوا عن الطريقة الشرعية في الإصلاح، فتباينت مواقفهم من فساد الحُكَّام الذين يُسهمون في تأخر بلادهم وشعوبهم، في الثقافة والتنمية والاقتصاد، تبايناً هو أبعد ما يكون عن طريقة الشرع في الإصلاح، فمنهم من جنح إلى ممالأة الطُغَاة وابتغاء رضاهم على حساب دينه وعلمه، الأمر الذي قد يجعل من بعض أحكام الشرع لعبة ركيزتُها الأهواء والمصالح،وآخرون اتخذوا منهج مصادمة الحكام والخروج عليهم وتحريض الشعوب على مناوءتهم، وكلا المنهجين أعقباُ ولا يزالان يُعْقِبَان ذُلَّاً وصَغَارَا، وقد أثبت التاريخ والواقع المعَيش ما يجلبه تحريض الشعوب على الخروج، وأنه أشد ضرراً على الدين والأمة وعلى تحقيق مقاصد الشرع، من أي مسلك آخر في التعامل معهم، ولم يسبق أن قَدَّم لنا التاريخ تجربة، أدى فيها الخروج على حُكَّام الجور، إلى إصلاح ما فسد، بل العكس هو الصحيح فالثورات لم تجلب يوما ما إلا ما هو أسوأ مما قبلها.

والإصلاح الصحيح الذي هو منهج الشرع القويم، هو مواجهة الطغيان بالالتفات الكامل لتربية الأمة وإعادة تأهيلها لحمل الدين، والصبر على تكاليفه وقبض الجمر الذي يؤدي إليه الصبر عليها، لتكون مؤهلة للإصلاح الإلهي في أحوالهم وأموالهم وولاياتهم، كما قال عز وجل ﴿وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرى آمَنوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنا عَلَيهِم بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ وَلكِن كَذَّبوا فَأَخَذناهُم بِما كانوا يَكسِبونَ﴾.

وحين نستعرض هذه الأصناف من ذوي الخطر على الدين من بين أهله، نوقن أننا منذ زمن بعيد نشتكي العدوان الخارجي على الإسلام والمسلمين، ونزعم عجزنا عن رَدِّه بحجة امتلاك أعدائه لِقٌوى الهيمنة العسكرية والاقتصادية، ونتفنن في أساليب مداهنتهم والتنازل لهم، من أجل اتقاء شرهم والتعايش معهم، ونتغافل عن حالنا ونحن نستبطن العلل التي هي أشد فتكا بنا مما يُحيط بنا، وهي لا غيرها السبب الرئيس في تسليط غيرنا علينا، ولو فقهنا والتفتنا إلى داخلنا وأصلحنا خللنا، لكان أمر أعدائنا من خارجنا أهون الشرور علينا.

«إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذُلَّا لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم» حديث شريف.