لزمن ليس ببعيد كنت أخاف أن أسأل عن شؤون في ديني شكل بعضها داخلي حيرة قلقة.. أسئلة كان البعض يرهبنا بمساسها والسؤال عنها، وكأن اليقين الصادق كان ممنوعا، والاستسلام للعقيدة هو الواجب! السؤال هنا هل اليقين الصادق بالدين أصدق أم تسليم العقل والاستسلام؟

في سنة 1930 ألقى الفيلسوف الهندي محمد إقبال محاضرات بعنوان «تجديد الفكر الديني في الإسلام» نشرت فيما بعد في كتاب بهذا العنوان حقق شهرة واسعة.

ما كان يعنيه محمد إقبال في محاضراته بكل بساطة هو تجديد مناهج النظر الفلسفي في الدين وتقديم حلول عصرية لمشاكل المسلمين من منظور ديني إصلاحي، مما دفع لظهور محاولات مشابهة بعده سأتناول بعضها معكم:

محاولة الفقيه التونسي المعروف الطاهر بن عاشور إحياء أطروحة مقاصد الشريعة التي قدمها الشاطبي، والانطلاق من ضرورات الدين وكلياته في بناء فقه جديد للمجتمعات المسلمة يتلاءم مع حقائقها وأوضاعها الموضوعية، وقد استأنف العالم والسياسي المغربي علال الفاسي هذا المجهود وطوره في اتجاه ليبرالي حداثي، لم يكتب له مع الأسف تأثير كبير في الخطاب الإسلامي الذي هيمن عليه الإخوان والسلفيون المتشددون.

محاولة بناء خطاب عقلاني نقدي في الإسلام، ظهرت عند الكاتب والمفكر المصري الكبير عباس محمود العقاد في عبقرياته وفي كتبه الفلسفية والاجتماعية، وهو في أعماله يطور مشروع الإمام محمد عبده الإصلاحي في جوانبه الفلسفية التي بلورها مصطفى عبد الرازق، كما يحقق التوفيق بين النزعة الإسلامية التجديدية وكتابات التنويريين المصريين الذين بشروا بالعلم التجريبي والنقد التاريخي، ولا شك أن أعمال زكي نجيب محمود، وخصوصا كتابه الهام «تجديد الفكر العربي» تدخل في نطاق مشروع العقاد التجديدي.

محاولات إعادة قراءة التراث وتأويله وفق مناهج العلوم الإنسانية والنظريات الاجتماعية التاريخية المعاصرة، من أجل الانفصال عنه شعوريا وتاريخيا وامتلاكه معرفيا، بما يحقق النهضة العربية الإسلامية المنشودة، ظهر هذا المجهود عند الطيب تزيني وحسين مروة، ومن بعدهما محمد عابد الجابري ومحمد أركون وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد.

ما أريد قوله من استعراضي هذا للكتب والمحاولات السابقة لمشاريع فكرية تجديدية، هو أن الخطاب الديني لا يزال يحتاج إلى إعادة بناء وتأويل، فالثقافة الدينية السائدة اليوم تعاني من الجمود الشديد والتعصب المغلق في زمن متغير متقدم عميق.. وللأسف دعاة الفتنة والتمرد ما زال بعضهم يسيطرون على ساحة الدعوة والإرشاد، ويرجم كل من يخالفهم الرأي بالكفر والخروج من الدين.

هذا الموضوع هو مفترق مهم بقضية التجديد وإعادة التفكير بقضايا ومواضيع مفصلية والدين، فالكتابة عنه هي سطور تمشي فيها على قشور بيض والتعمق بها يفتح عليك بيوت الدبابير! ولكني أرى أن الخوض فيها أصبح لي قضية مصيرية وأمانة أحملها لأجيال ستأتي بعدنا، موضوع الإيمان والاعتقاد، والموقف من تراث السلف، وأئمة الدين في العصور السابقة، والعلاقة بالآخر؛ أي بالحضارات والثقافات المغايرة كلها عناوين رئيسية لمواضيع ستطرح، سيواجهنا بها الجيل القادم.

لقد سبق لي أن تحدثت عن الإيمان، وربطته بالفضول المعرفي والشك المفضي للحقيقة، فلنا في المسار الإبراهيمي كما في القرآن الكريم بيان ودليل، بدءا من الشك التساؤلي في موضوع الألوهية الذي أفضى إلى إدراك حقيقة التوحيد، انتهاء بالحوار الهادف إلى اطمئنان القلب.

إذا كان أب الفلاسفة سقراط قد عرف بسؤاله المتهكم الذي يقول إنه يولد به الأفكار كما تولد والدته القابلة النساء، فإن إبراهيم، عليه السلام، يؤسس لمنهج النقد والتساؤل من أجل بناء عقيدة صلبة لا تزعزعها الشكوك والتخمينات.

ما تدل عليه هذا التجربة هو أن الإيمان الحقيقي ليس تركة تورث أو استسلاما لعقيدة مفروضة، بل هو كدح مستمر وحيرة مقلقة ينجم عنها يقين صادق.