عن دار موزاييك للدراسات والنشر صدر ديوان «الليل سيترك باب المقهى» للشاعر الإماراتي محمد البريكي، في 136 صحفة من القطع المتوسط، متضمنا 27 قصيدة تنوعت بين العمود والتفعيلة.

وعن الديوان، كتبت الشاعرة والكاتبة السورية إباء مصطفى الخطيب وتحت عنوان توجسات البريكي بين القلق واليقين قائلة «عودتنا موزاييك للدراسات والنشر على الانتقائية في طباعة المجموعات الشعرية التي تصدر عنها، ولأننا أيضًا أمام شاعر عرفناه في إصدارات سابقة محلقًا بأجنحته ومجربًا فضاءات شعرية خلاقة؛ فقد كنا أمام تحدٍّ يكمن في أن التوقّع عالي المستوى، وهذا ما سنحاول الوقوف عليه في هذا الإصدار الجديد (الليل سيترك باب المقهى) فقد ترك الليلُ ممسكًا بيد البريكي باب المقهى وأخذنا معه إلى عوالم شعرية خاصة».

آفاق خصبة

تواصل الخطيب «يدخلك البريكي من باب مجموعته إلى آفاق خصبة، وهو معانق الحياة يهديها حروفه ويلتفت إلى الأعلى مطلقًا العنان لطائر شعريته كي يحلق به إلى سماوات القصيد. وهذا ما يجعله يصف ذاتَه في رحلة العروج هذه.. هذه الذات التي بدت متماسكة من الداخل حول محور من القيم والأخلاقيات العالية والتي برزت على امتداد المجموعة وفي عدة نصوص»؛ يقول مثلًا في قصيدة غدر الطواحين:

فكلَّما جاءَ طفلُ الفجرِ يسألُني

بكتْ من الجوعِ أحلامُ البساتينِ

وكلَّما قريةٌ أنّتْ على سهري

أقولُ: نامي طويلاً في تلاحيني

هذه الذات الملتحمة مع أوجاع الآخرين وتعبهم قد التقت معهم على عدة مستويات، منها التقاء المحبين كقوله:

وإنْ تنفَّسَ صبحُ الحلمِ في رئتي

تشمَّسَ الحبُّ في مقهى الفساتينِ

ومنها مستوى يترفع فيه عن حسد الحاسدين، فيقول في قصيدة:

فإذا حُسِـــــدْتُ فـــــإنَّ ذلك مِنّـــــــةٌ

إنَّ الغنـــــيَّ بشعـــــــرهِ يُغتـــــــابُ

انتقالات

تكمل الخطيب «في النصوص التي تبرز في جلّها الذاتية الشاعرة شاخصة للقارئ ستفاجئه بأنها ستتماهى تمامًا بالآخر، وهذا ما يؤكد عليه سانت بيف حين يقول «إن الأديب فرد في أخص حالاته النّفسية». أما هذه المعلومات فهي التي تقدم الفردية الحيّة إلى الجمعية، غير مجردة بل في موضوعية، وتضع الأديب على قدميه في واقعية تامة ومفصلة من كل جوانبه بالأرض، وفي هذا الانتقال من الهم/ الفكر / الإحساس الذاتي إلى العام حالة من الذوبان التدريجي الذي يسحب معه القارئ، إذ إنه لم يكن انتقالًا مباغتًا تعسفيًّا، مثال ذلك قول الشاعر في قصيدة (أنا البحر):

ليتَ من يفتحُ البابَ يقبلُ هذا الجسدْ

يا المرايا.. مددْ

إنني الآنَ لستُ المكانَ

ووجهُ المدينةِ يمسحُ قُبلةَ دمعي

فترجعُ للقلبِ مكسورةً

خااااااائرةْ

إننا في هذه القراءة نتناول عدة أبعاد جمالية وليس الهدف من ذلك إبراز وجهها العام الشامل وإعطاء لمحة عامة، بل من باب إعطائها حقها في التنوع الذي تقدمه، فالشاعر قدمها في مسارات متعددة ومحاور خصبة، ففي كل بعد أو محور مغناطيس جاذب ويد تلوح لك كي تقف طويلا وتتأمل».

سمات النصوص

تشدد الخطيب على أن أبرز سمات نصوص المجموعة هي حالة التنامي في النص، وهذا أمر يستحق أن تفرد له دراسة خاصة من قبل المختصين فهو أمر ضائع في عموم شعر اليوم.

ففكرة النص الواحدة شيء -وهو أمر حققه الشاعر أيضًا- وتنامي النص وصولا إلى ذروةٍ ما شيءٌ آخر تمامًا وهو لافت في نصوص المجموعة.

حيث يصعد بنا الشاعر درجة درجة في سلم الإحساس، بل ويشحن القارئ تصاعديًا إلى أن يفجّر الشعور في ذروته ليكون التفريغ متساويًا مع الحالة الانفعالية. وهذا ما نراه في قصيدة (احتفاء بما تبقى):

أيُّها الناسُ

من للثكالى اللواتي افترشنَ الحصى

وشَرِبْنَ الدموعَ

ومن لليتامى الذين يعيشونَ من دونِ ألسنةٍ

كي يقولوا:

تعِبْنا من الحربِ.. لا نشتهي الخبزَ

بل نشتهي وطنًا سرقتْهُ القنابلُ منّا

فلا أهلَ أو أرضَ

ننعمُ فيها ببعضِ السُّبات.

تزدحم هذه الجملة الشعرية بالعبارات الدالة على النمو والصعود، فالخطاب المباشر يخفي معالم التوجس خلفه، وهو قادر على أن يخفي مقاصد التيه، ثم أردف الخطاب المباشر بأسئلة استنكارية من خلال تكرار (مَن) والهدف هو الدلالة على الهواجس تعاينها الروح وما يخفيه المشفقون في نفوسهم من حسرات على اليتامى، وازدراء الحرب، وفيه يواري الشاعر نمو الخراب الذي نعايشه مع كمية توجسات كثيرة قابعة في داخله، فجاءت الدموع كأداة رؤية تعيد لهذا التوجس توهجه.

الحكاية المحبوكة

تحكم الخطيب على أن القصيدة عند البريكي تحمل حكاية والحكاية محبوكة بعناية، أما النهايات سواء كانت مفتوحة أم مغلقة فإنها تفتح بابًا عريضًا للتأويل لدى القارئ، وخصوصًا في نصوص التفعيلة التي تميز بها شاعرنا في هذه المجموعة وبلغ معها أراضي لم تحرث من قبل، وكذلك في النصوص ذات الصبغة الوجدانية العميقة والذاتية التي تبحر في أعماق الشاعر؛ يقول:

أيُّها الناسُ

قد جاءَكُم نبأٌ

لمْ تعوا ما بِهِ من عِظاتْ

قال:

لا تهدموا أرضَكُم

بمعاولِ من لا يريدونَ للأرضِ

أن تستقرَّ على عقلِها

من يخافونَ

من قالَ:

لا تخرجوا

واسمعوا

وأطيعوا لمن أذِنوا للمآذنِ

حتى تقولَ لكم:

أيُّها الناسُ

حيَّ على ربِّكُم والصلاةْ.

وللقارئ أيضا أن يلاحظ كثرة استخدام الشاعر لحرف العطف (الفاء) في هذه المجموعة بهدف التفسير والانتقال السلس من درجة إلى درجة صعودًا في النص يقول مثلا:

هذي يدي، يقطرُ الشعرُ منها

فيُثمرُ وردُ الحديقةِ فيها

فلا تلتفِتْ للمراكِبِ في البحرِ

تلكَ هيَ الروحُ تحضُرُ حفلةَ عرسي المؤجَّلَ

فادخُلْ برفقٍ إلى عالمي أيُّها الطينُ

من جهةِ القلبِ، فالقلبُ يا أيُّها الطينُ بابي

غنى المواضيع

تعرج الخطيب على غنى المواضيع التي طرحها الشاعر، وتقول «لا بد أن نشير إلى أن بعض المواضيع الحياتية كموضوع الكورونا على أهميته اجتماعيًّا إلى أنه حدّ من التدفق الذي عودنا عليه الشاعر في نصوصه التفعيلة الأخرى؛ لمباشرة الموضوع وإيصاله بشكل واضح للقارئ العادي» يقول:

تخطَّفَ الأرضَ «كورونا» وزلزلَهـــا

وصـــارَ حولَ رقـــابِ الخلقِ سكّينــا

وأصبــــحَ الشــارعُ المعمورُ مقبـــرةً

والبيــتُ أصبحَ بعدَ الركضِ يُؤوينـا

السيطرة على النصوص

تقرر الخطيب أن «البريكي كان مسيطرًا في نصوصه فلا تضيع الفكرة ولا يعيبها التشتت ولا يسرح به الشعر ويضيع معه القارئ كما يحدث في كثير من شعر التفعيلة، بل تبدو الفكرة متنامية كما ذكرنا وكذلك مضبوطة وواضحة للشاعر؛ وحين يدرك الشاعر ما يريد يجعل القارئ مركزًا ومرتاحًا ومستمتعًا، وتصبح العلاقة تفاعلية لا تلقينية بينه وبين قارئه»، يقول في قصيدة أحب البلاد:

بِمَنْ سمِعوكَ وأنْتَ تُوزِّعُ بعدَ انتظارٍ

تذاكرَ مسروقةً من غلالِ الحيارى

الذينَ يعيشونَ في الطرقاتِ على دمعهِم للأبدْ.

أنا مثلُهُم يا صديقي

«بدأتُ معَ البحر»

لا لأُعَلِّمَ أسماكَهُ كيفَ تجلسُ فوقَ الرمالِ

وتكتبُ مثلي قصيدةَ شوقٍ

ليَسرقَها الموجُ ثُمَّ تغوصُ وتتركُني أتأمّلُ هذا الزَّبَدْ

البعد الوجودي

ترى الخطيب أن من سمات المجموعة أيضًا البعد الوجودي والتفكّر والتصوّف والذي برز بشكل واضح في بعض النصوص وهذا ما يمنحها كثيرًا من السمات الفاعلة في بقائها وتجددها، ومنها إنقاذها من المباشرة والتقرير والخطابية والغنائية، كما يخلق فيها فضاء متخيلاً واسع الأبعاد، يقول في ريشة القلق:

تمضي الكواكبُ في الظلماءِ سابحةً

وسادِنُ الليلِ مصلوبٌ على الطُّرقِ

ومثلما صُلِبَت أحلامُهُ صُلِبَت

ألحانُهُ بغناءٍ آسِرٍ عَبِقِ

وكانَ يَنشُدُ للأشجارِ حكمةَ من

قصيدُهُ ذوّبَ الدرويشَ في الحِلَقِ

وهذا ليس بغريب على البريكي الذي يحمل شعره هواجسه الإنسانية وطريقة تفكيره العميقة بالكون والإنسان؛ ولذلك تجده مكثرًا من التساؤلات فلا يكاد يخلو نص من الصيغ الإنشائية؛ يقول:

أراقبُ هذا العالمَ من ثقبِ الفكرةِ

هلْ قابيلُ توحّشَ جدًّا من هابيلَ؟

وهلْ ضاقت هذي الأرضُ بما رحُبَت

فأصرَّ على أن يقتُلَ؟

هل ثمّةَ طحنٌ منتظَرٌ؟

فالبحرُ يفيضُ بما يكفي للرعبِ

وهذا الجيلُ المعدودُ بِعَدِّ أصابعِ كفّي

كيف نروّضُهُ

ونعيشُ مع البرقِ المرسلِ من سربِ الأقمارْ؟

هذه الصيغ تحيل القارئ على حالة الشاعر الذي يبحث عن الإجابة عن أسرار الكون، ويتعجب من الحال الذي آلت إليه الأوطان مستفزًّا بذلك القارئ كي يتساءل ويفكر ويستنكر معه.

روح الطبيعة

تعتقد الخطيب أن من يقرأ (الليل سيترك باب المقهى) سيسرح مع شاعرنا في الطبيعة التي حضرت روحها في نصوصها من جهة وبيئة الشاعر التي استدعاها بشكل وافر ووارف أيضًا في هذه المجموعة من جهة أخرى، فجاءت مكتنزة بمفردات الصحراء والرمل والغروب والبحر والنخل والكثير الكثير من معطيات بيئة الشاعر وهذا الحضور لمعطيات البيئة حضور فاعل مندمج بشكل حار مع روح الشاعر وليس جامدًا باردًا؛ يقول:

وقَفَ الماءُ مندهشًا من أغانيهِ

والطيرُ أنصتَ حين تغنّى

ومالَ على نايِهِ ضلعُ صفصافةٍ تحرسُ الرملَ

والعشبُ حولَ الحصى طربًا فتّحَ البابَ للشمسِ

كي تتمشّى كفاتنةٍ سرّحَت شعرَها

تحتَ ظلِّ الخجلْ

وكذلك حياته القروية وذكرياته فيها؛ يقول:

أيُّها القرويُّ الذي عرّشَتْ سدرةٌ في شرايينِهِ

هلْ سيشربُ نحلُ السكوتِ من الماءِ

إنْ حوّلت ريحُ هذي المدينةِ مجراهُ عنكَ بعيدًا

وسارَ إلى جهةٍ لا ترى سَحْنَةَ القرويِّ

لها فارسًا يمتطي ظهرَ بنتِ الرياحِ

إذاً.. لا تُعَوّلْ على الريحِ

استدعاء الموروث

تتصور الخطيب أنه إن كان للبيئة هذا الدور الكبير في نصوص المجموعة، فلاستدعاء الموروث دور لا يقل حضورًا. وقد عمد الشاعر إلى استدعاءات مباشرة وتناصات مع نصوص شعرية أو دينية من ذلك قوله:

تعالَ...

فلستُ هنا لأقولَ: «قِفا نبكِ»

بلْ أنتَ والبحرُ كفّانِ لا يُهديانِ الغريبَ العظامْ

وفي الأرضِ بحبوحةٌ مِن سلامْ

شخصية امرئ القيس في هذه القصيدة شكلت عنصـرًا فـي صـورة جزئيـة، وهـذه الصـورة صـورة حديثة لجأ إليها لصـنع صـورة عصـرية تعبـر عـن رؤيتـه الخاصة. الشاعر في هذه القصيدة اختار من ملامح الشخصية ما يوافق تجربته، فلا وقوف ولا بكاء، بل هنالك فعل معاندة واستمرار في الحياة، ويتراسل الشاعر من خلال هذه الاستحضارات مع قضاياه مضفيًا عليها دلالات معاصـرة، وذات طاقة فعّالة جدًا.

استدعاءات مبطنة

تنهي الخطيب بالتأكيد على أن من لمحات المجموعة أيضًا الاستدعاءات المبطنة المهضومة داخل النص والمنبثقة من قلم الشاعر بروح جديدة، يقول:

سقَطَت كلُّ تلكَ القلاعِ

وما زالَ قبرُ الغريبِ يؤانسُ أغماتَ

يمنحُها دفءَ أشعارِ من خلَّفَ القصر

المجموعة الممتدة على (136) صفحة؛ حافلة بالشكلين العمودي والحر (التفعيلة) للشعر ومن اللافت أيضًا اعتماد الشاعر دمجَ الشكلين في نص واحد كما فعل في قصيدة غيمة الأنفاس، يقول:

حدّقي يا شمسُ

في هذا الفتى المسجونِ دومًا في الأعالي

من يغنّي فوقَ ظهرِ الغيمةِ الحبلى بحبٍّ:

يا خيالي

هذه الأرض التي تمشي إلى غيري بخيري

لا أرى فيها لحزني ظلَّ «غافٍ»

يحجبُ الدمعَ المسجّى فوقَ جرحي

لا أرى للبحرِ إلا فضّةَ المعنى الذي يمشي ورائي

ربما يحتاجه البحر ليخفي سوأة الموج الذي ينهار عند الشاطئ المجنونِ

ثم ينتقل ويقول من ذات القصيدة:

حدقي يا شمسُ فالحزنُ تعالى

وانثنى دمعي على خدّي وسالا

وإذا ما الشرقُ أضحى لي جنوبًا

وغدا غربي بعينيَّ شِمالا

فكان يبدأ بالتفعيلة ويكمل بالعمود ولهذا الدمج وقعه الجمالي من جهة ومطبّاته من جهة أخرى بالنسبة للتلقي ولكنه أمر يحسب لشاعرنا.