كنت منبهراً بفكرة الاستحواذ والسيطرة عند دراستها في مادة الشركات وخصوصاً في كلية القانون بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث إن تلك البلاد الأنجلوسكسونية قد أسست البنى والقواعد والمبادئ القانونية والقضائية لكل ما يتعلق بفكرة الاستحواذ ( Take over) والشركات عموماً منذ أكثر من مائة عام، وهذه الفكرة في عمقها التجاري تتعلق بامتلاك وسيطرة شركة لأخرى سواء كان امتلاكاً أو سيطرة كاملة أم كان امتلاكاً أو سيطرة أغلبية أو كان امتلاكاً أو سيطرة جزئية بما دون النصف والمقصود الحقيقي من كل أحوال الاستحواذ هو فرض السيطرة المالية والإدارية على الشركة المستحوذ عليها وإحكام تصرفاتها وتقييدها بما ترغبه وتسعى إليه الشركة التي فرضت سيطرتها، وكل حالة من تلك الأحوال من الاستحواذ التجاري لها أحكام وشروط ونتائج قانونية وقضائية، وذلك أن الاستحواذ التجاري له تأثيرات على ما بعد تحقق إجراءات الاستحواذ وتنتج عنه مسؤوليات قانونية وقضائية لكل الأطراف التي تتعلق بعملية الاستحواذ التجاري، والاستحواذ عملية معقدة في علاقاته بأطرافه وذلك لوجود أقلية وأغلبية سواء في الشركة المستحوذة أو في الشركة المستحوذ عليها، بيد أن القوانين والقضاء في الدول المتقدمة الأنجلوسكسونية قد وازنت بين تلك العلاقات وأصلت أصولاً وقعدت قواعد علمية وأصبحت قوانين يعمل بها ثم أسهمت أحكام وسوابق القضاء الأنجلوسكسوني في إرساء دعائم مفاهيم الاستحواذ التجاري، وتلك القواعد والأصول تدور حول تحقيق المصالح ونفي الأضرار عن كل من له علاقة في عمليات الاستحواذ، وكذلك أبدع القضاء طرقاً تأصيلية في إرساء القواعد القضائية التي تحافظ على مصالح الأقليات المالكة في الشركات سواءً التي قامت بالاستحواذ أو التي تم الاستحواذ عليها، بل إن هناك أحكاماً قضائية تبطل عمليات الاستحواذ والسيطرة على الشركات الصغيرة وذلك لما في عمليات الاستحواذ من (non-fairness) ليس فيها عدالة واضحة للأطراف، أو عدم وجود المصلحة الحقيقة للشركة المستحوذ عليها في عملية الاستحواذ، أو لقصور وضعف التقييم لأصول وأسهم الشركة المستحوذ عليها، وهناك أسباب كثيرة يؤسس القضاء أحكامه عليها في إبطال عمليات الاستحواذ، وهذا يدل دلالة واضحة على أن عمليات الاستحواذ التجاري لها جهات رقابية وقضائية وتنفيذية ترسي قواعد وأسساً لمفاهيم عمليات الاستحواذ التجاري، وترفض أي فرض تعسفي لعمليات الاستحواذ التجاري أو تأويل مفاهيم الاستحواذ أو الانحراف عن المعاني الحقيقة والمبادئ والأسس للاستحواذ، فمن خلال رفض فرض التأويل نشأت فكرة ربط الاستحواذ والتأويل لما بينهما من علاقة في فكرة السيطرة والتحكم بالآخرين وتقييد تصرفاتهم بما يريده من يفرض السيطرة والتحكم بما يفكر فيه الآخرون، علماً أن الاستحواذ على التأويل ليست قواعده وأسسه وأصوله مثل الاستحواذ بمفهومه التجاري المقرر في قوانين الشركات، بيد أن كثيراً من وسائل الإعلام والمؤسسات الأكاديمية والجماعات الإسلامية والأحزاب الليبرالية وغير الليبرالية في جميع أنحاء شتى عالمنا المعاصر تمارس عمليات فرض الاستحواذ والسيطرة على التأويل في كل ما يجري في حياتنا المعاصرة، والمقصود بالاستحواذ على التأويل هو فرض مسار أو اتجاه أو معنى أو غرض لأي حدث أو قصة أو حركة أو سكنة من سكنات حياتنا المعاصرة، ومحاولة تجييش كل المصادر والآليات والمقومات لفرض ذلك التأويل والاستحواذ على المقصود والغرض من تفسير تلك الأحداث والوقائع المراد فهمها، ومن خلال فرض الاستحواذ على التأويل يتم إقصاء وإخراج كل معنى أو تأويل محتمل لتلك الأحداث والوقائع، ومن هنا تحدث الإشكاليات والتناقضات في كل مجالات الحياة وأحداثها المعاصرة، وذلك أن فكرة فرض الاستحواذ على التأويل هي أس الإشكاليات منذ بدايات الأفكار وتشكل الرؤى والتصورات للإنسانية ثم تسلسلت تلك الإشكالية عبر عصور البشرية حتى وصلت تلك الإشكالية إلى رؤى وتصورات الأديان السماوية وغير السماوية، فكان موضوع المعارك الفكرية الحقيقية التي تدور رحاها بين أصحاب الأديان وغيرهم هي في من يمتلك الاستحواذ على التأويل ويفرض المسار التأويلي الذي يتبناها وينبذ ويطرح ما عداه من تأويلات، وتاريخ هذه الإشكالية مسطر في كتب التاريخ والتراجم والاعتقاد، بل إنه قد تمت كتابة رسائل أكاديمية في حقيقة إشكاليات التأويل وفرض السيطرة والاستحواذ عليه بين الفرق الإسلامية المتصارعة في دائرة التأويل للنصوص التشريعية، وفي وقتنا المعاصر نجد أن فكرة الاستحواذ على التأويل بارزة وظاهرة لا تكاد تخطئها العين، فما إن تذهب إلى قناة أو برنامج وتستمع لما تحتويه مضامين تلك القنوات والبرامج إلا وتكون صورة الاستحواذ على عقل المشاهد والمستمع وفرض معنى وتأويل أحادي مغلق بحيث يصبح هذا المشاهد أو المستمع أمام كل الأحداث والتصرفات والوقائع لا يملك إلا تفسيراً واحداً كان قد تلقاه من ذلك الإعلام الذي مارس فرض الاستحواذ على التأويل وامتلاك الحقيقية، فينشأ أفراد المجتمع على قبول الاستحواذ على التأويل، فيمارسه أولئك الأفراد على مجريات المجتمع فيصبح المجتمع أحادي التفكير والنزعة فتنشأ كل إشكاليات الحياة المعاصرة من خلال هذه الإشكالية الفكرية العميقة التي شاركت في نشأتها كل من يؤسس للاستحواذ على التأويل، وما الإعلام إلا ضحية من ضحايا أصحاب التأسيس الفكري لفرض الاستحواذ على التأويل، وكانت قد تأصلت هذه الإشكالية عند بداياتها في كيفية قراءة النصوص والتنازع في كيفية فهمها وتأويلها، فقد كان التأويل في اللغة العربية عند قراءة النصوص تتنازعه سلطة النص ذاته وسلطة القارئ، وهذا التنازع بين السلطتين قد ينتح عنه ترجيح إحدى السلطتين وهو ترجيح له دراساته ونظرياته لا يحتملها هذا المقال، وهو تنازع له خصوصياته، وذلك لأن النصوص لها أقسام كثيرة بيد أن أهم تقسيم لها هو تقسيم النص إلى نص مقدس (المقصود بمقدس أنه نص إلهى تم تنزيله من الخالق لهذا الكون مثل القرآن الكريم) ونص غير مقدس، وهذا التقسيم هو الذي دارت عليه المعارك الفكرية عند تأويل تلك النصوص، فالنزاع لم يكن في سلطة النص المقدس بذاته بل كان النزاع في احتمالية وجود تأويلات ظنية يحملها ذلك النص المقدس، فغالب الاختلافات حول النص المقدس لا تكون في صحته أو كيفية طريقة ثبوتيته، فلا شك أن النص المقدس القرآني هو قطعي الثبوت ويقيني الصحة، ولا شك في كونه هو النص الصادر عن الذات العلية بيد أن الإشكالية ليست في الموثوقية بل تكون الإشكالية دائماً في احتكار فكرة التأويل والاستحواذ على معنى ذلك النص بمدلول ومعنى أحادي، فيغدو ذلك الاستحواذ للتأويل طارداً لكل معنى أو تأويل، ومن هنا تبدأ الإشكاليات في كل مسارات الحياة التي تتخللها تلك النصوص، وإن كل ما نراه من اختلافات فكرية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو حتى لغوية يكون منبع تأصيل اختلافاتها هو محاولة كل طرف أو جهة أو فريق للاستحواذ على التأويل لتلك الاختلافات، وذلك أننا تعلمنا في مادة أصول الفقه عند بحث أي مسألة في بداياتها أن يتم التأصيل لكل اختلاف وفهم من أين أتى ذلك الاختلاف بين أصحاب تلك الأقوال في كل مسألة، وهذا ما نسمعه بلغة أمريكية عصرية ( I know where are coming from )، ومن ثم يتم تحرير محل كل نزاع فيكون واضحاً لمن يريد أن يقرر مسألة ما من أين يبدأ، وإلى أين ينتهي في كل مسألة، وفي ظني أن تفكيك فكرة الاستحواذ على التأويل له علاقة قوية بكل نظرة تسعى للتطور والتنمية والتقدم، فما لم يتم تحجيم فكرة الاستحواذ على التأويل وفرض الرأي الأحادي النظرة فإن ما نظن أنه قد ولى وانتهى من أفكار ونظريات تسعى لتقويض مجتمعاتنا لا يزال كامناً ومختبئاً ويعزز لخروجه بقاء فكرة الاستحواذ على التأويل لأنها هي الذراع التي يسطو بها على المجتمعات، وما يحصل الآن في أفغانستان من سعي جماعة طالبان للسيطرة على المجتمع واستحواذها على التأويل في المجتمع إلا مثال حقيق ومعاصر ونشاهده أمام أعيننا، ألا هل بلغت اللهم فاشهد.