هذه القصائد الطويلة الفخمة.. هل كانت مجرد كلمات جوفاء.. غاضبة ومتشنجة وهل كان الجواهري سريع الانفعال عاجزًا عن التأمل؟.

عندما ظهر الشاعر محمد المهدي الجواهري كان يسيطر على الساحة الشعرية العراقية شاعران، تفاوتت حظوظهما من الشعر تفاوتًا كبيرًا.

فكان الزهاوي بلغته الركيكة الواهية ونظمه النثري المتهافت الذي كان يشفع له لدى الناس نوع من المواقف المتحررة الجريئة التي كان من الممكن أن تصنع منه المصلح أو الثائر، ولكنها على جرأتها، لم تصنع منه الشاعر. وكان الشاعر الآخر معروف الرصافي. وكان هذا الشاعر شيئًا من المزج بين طريقة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ويتضح ذلك في توظيفه الشعر لخدمة القضايا الاجتماعية ومناقشة المواقف السياسية، والمتابعة الصحفية الشعرية، إذا صح هذا التعبير. على أنه يفوق شوقي وحافظ بالتزامه الوطني والاجتماعي المعلن والذي لم يكن يهادن فيه أو يساوم، إلى حرية فكرية جريئة لا نكاد نلتقي بها لدى غيره من شعراء الوطن العربي في ذلك الأوان، وخاصة في وقوفه إلى جانب حرية المرأة، مع صياغة شعرية راقية ترتفع به عن مستوى الزهاوي وما شابهه من شعراء العصر. ويمثل الرصافي في إطار المدرسة التقليدية العربية الحديثة أقوى صوت شعري قدمه العراق في العصر الحديث.

كما يمثل ارتباطه بقضايا الوطن العربي جانبًا في شخصيته القومية وتوجهاته القومية الواضحة. والواقع أنه بعد ذهاب شوقي وحافظ، لم يكن هناك شاعر تلتفت إليه الأبصار، أبرز من معروف الرصافي.

ومن هنا كانت له هذه الشهرة التي ظفر بها. وبصفة خاصة، بعدما نسبت إليه في أواخر حياته بعض المواقف الفكرية الجريئة، ومنذ أن حصل الجواهري على اعتراف الرصافي به أميرًا للشعر في العراق، في قصيدة يرويها الجواهري نفسه باعتزاز وفخر.

نصب نفسه فيما بعد الشاعر الأكبر والأوحد في العراق. وبسط هيمنته على الساحة الشعرية العراقية.

وحاول أن ينفذ منها إلى البيئة اللبنانية والسورية ثم المصرية، فلم تنته الحرب العالمية الثانية حتى كان الجواهري أقوى صوتا في الشعر العراقي، ومن أجهر الأصوات في الوطن العربي.

والواقع أن هذه الظاهرة الجواهرية التي تنامت في العراق ظاهرة جديرة بالاهتمام والوقوف عندها طويلا، لتفسير كثير من اتجاهات الشعر العربي المعاصر في العراق، وبالتالي في الوطن العربي الذي انسحبت عليه آثارها.

وأنا أعزو قيام حركة الحداثة الشعرية إلى هيمنة هذه الظاهرة الجواهرية في العراق، وأعتبره بهذه الهيمنة المُعْجِزَة للكثيرين من الشباب، سببًا في قيام حركة الشعر الحديث في العراق.

فقد جرب شباب الشعر أجنحتهم اللينة للتحليق في عوالم الشعر العربي بصياغته التقليدية القديمة فأيقنوا أنهم لا يستطيعون أن يحققوا شيئًا أمام هذا النسر المحلق - وهذا الوصف ليس للتمجيد ولكن لبيان الحال.

فقد أدرك السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي أنه لا قدرة لهم على مطاولة هذا الشاعر، أو تجاوز صياغته اللغوية القوية الصخّابة ذات العجيج والضجيج صياغة وإلقاءً وسلوكا.

فإذن، لا بد من قلب المعبد على من فيه. وكانت حركة الشعر الحديث التي انفكت انفكاكًا كاملًا عن الشعر التقليدي، تخلصًا من الهيمنة التي بسطها الشاعر على بيئته وعصره، والتي كادت أن تغطي قرنًا كاملًا. فأنا أعتبر الجواهري مسؤولا بطريقة أو بأخرى عن قيام حركة الشعر الحديث.

وقد ظل شعراء الحداثة حتى بعد انفكاكهم عنه، بأسلوبهم الجديد ينظرون إليه نظرتهم إلى الصخرة العاتية التي لا يمكن أن يناطحها أحد دون أن يوهن قرنه، لا في عالمه الشعري، ولكن في صياغته هذه اللغوية القويّة ولذلك شعروا بالارتياح أن يدفنوا فيه آخر العمالقة!

وأنا أعتبر أن معجزته الشعرية هي لغته، مقارنة بما كان معاصرا له أو ما جاء بعده. وليس لهذا الشاعر (كون شعري) لغته هذه المتأججة الصخّابة هي التي أظهرته على شعراء عصره، وشكلت قوة رهيبة، أحسن هو نفسه استغلالها والإفادة منها، في ترسيخ كيانه في العراق وخارجه.

أما عن عوالمهم الشعرية أعني ألوانهم الشعرية فلم يستطع أن ينافسهم فيها، حيث ظل كل واحد من هؤلاء متميزًا بلونه الشعري الخاص، بمن في ذلك الزهاوي صاحب تلك الصياغة الواهية، ولكنه كان يتوفر على كون شعري لا يملكه الجواهري.

وفي الشعر العربي شعراء قام كيانهم الشعري كله، على ما توفر لهم من صياغة قوية. في القديم كان البحتري وفي الحديث أحمد شوقي ثم محمد المهدي الجواهري وأصحاب اللغة الشعرية كبائعي حلوى (غزل البنات) تقدم إليك لغَّة كبيرة حتى إذا وضعتها في فمك لم تجد شيئًا. أو هي كما يقول المثل التركي قنطار خرشف ودرهم حلاوة.

وقد أدرك شباب الشعر في العراق ما يختلف به بعض هؤلاء الشعراء المتعاصرون عن بعض فسجل السياب مثلا أن أحمد الصافي النجفي (عالم قائم بذاته متسع الأفق، وشكل لا مثيل له عند أي شاعر عربي بمفرده. لم يترك موضوعًا إلا وطرقه، ولا عاطفة إلا وصورها فهو شاعر فلسفة وحكمة وهجاء وسخرية وغزل ووصف طبيعة، وهو شاعر ذاتي إلى أبعد حدود الذاتية، وموضوعي، إلى أبعد حدود الموضوعية إنه ظاهرة ضخمة في الشعر العربي).

كنت دائمًا أقول إن الجواهري شاعر ضجيج وعجيج. وإن كونه الشعري محدود في ردود فعل انفعالية تخص (أنا) الشخصي وليس له في شعره رؤية متكاملة للكون، وأن الرصافي أرحب كونًا شعريًا منه، بل أذهب إلى أبعد من ذلك، فأقول إن الزهاوي على ضعف وتهافت وركاكة نظمه ينطوي على طموح شعري يتجاوز كيانه اللغوي المهدود (المتفضفض).

ويذكرني الجواهري بالوصف البارع الذكي الذي وصف به الدكتور زكي مبارك معاصره الشيخ عبدالعزيز البشرى الذي قال عنه إنه (رجل صخّاب ضجّاج يدق الأجراس الضخام حين يدخل الغابة للصيد).

شاعرية الجواهري وخصوصيته وشخصيته كلها في هذه القعقعة والصخب وهذا الضجيج اللفظي، فإذا نزعت عنه هذا الضجيج، لم تجد عنده شيئًا.

إن اللغة قد تصبح أحيانًا عند الذين يحسنون ترويضها ويملكون عصبها شعرًا يقصد لذاته، وهو أمر تراه يحقق في الحديث لشاعرين: أحمد شوقي والجواهري، فشاعرية شوقي أيضًا تقوم على اللغة أعني أنه شاعر لغة، ربما كان ذلك قدر الذين يبعثون في مراحل الإحياء أو مراحل الترف والرخاء.

أن تصبح اللغة ذاتها شعرهم، وغايتهم الشعرية وربما كان ذلك علة اختفاء الشخصية في شعر شوقي، وعلة اختفاء الكون الشعري لدى الجواهري.

1984*

* أديب ليبي " " 1930 - 2010"