فيما كان إبراهيم رئيسي يعلن أولوياته، يوم تنصيبه، كان العالم أكثر اهتماماً بأولويات «الحرس الثوري» الإيراني. قال الرئيس الجديد، وهو قديم في النظام وأروقته المظلمة، إنه يريد إنقاذ الاقتصاد الداخلي برفع العقوبات الأمريكية «غير القانونية» من خلال مفاوضات فيينا، ويسعى إلى تحسين العلاقات مع دول الجوار، أي بشكل أساسي مع دول الخليج. لم يوضح كيف سيحصل على اتفاق مع الأمريكيين من دون تنازلات، فهذا من شأن المرشد علي خامنئي. ولم يفصح عما إذا كانت تهديدات إيران وتدخلاتها في أربع دول عربية «قانونية» أم لا، أو إذا كانت الميليشيات المحلية «قانونية»، فهذا شأن «الحرس» الذي سيكون منذ الآن صانع سياسات داخلية وخارجية في مرتبة ما بين الظل والواجهة.

كانت سياسات حسن روحاني وفريقه «الأمريكي»، كما يوصف داخل النظام، استطاعت أن تأتي باتفاق نووي يؤمن رفع العقوبات تدريجاً. أما كيف تعاملت أجنحة النظام، من المرشد إلى «الحرس» إلى زمر المحافظين المتشددين، مع هذا الاتفاق، وكيف حالت دون تفعيله وفقاً للمنطق الذي بني عليه، أي في اتجاه وضع العلاقات مع الولايات المتحدة في مسار انتقالي يفترض أن يفضي إلى نوع أو درجة ما من التطبيع، فهذا كان خارجاً عن إرادة الجناح «الإصلاحي». وحين استخلص خامنئي، الحاضر في الاجتماع الأخير لحكومة روحاني، أن تجربتها «أثبتت أن الثقة بالغرب لا تنفع»، فلا بد أن الرئيس السابق كتم أن ثقة الغرب بالنظام لا تنفع أيضاً، بل ربما جعلته تجربته يدرك أسباب ضياع «الإصلاحيين» بين الأجندات المتصارعة: النظام لا يريد إصلاحاً على الإطلاق، والغرب لا يمكن أن يقبل هذا النظام كما هو، أما «الاتجاه شرقاً» فيرسخه في ممارساته التي بات الإيرانيون يرفضونها قبل سواهم.

جملة تطورات استبقت تنصيب رئيسي وتخللته وتلته، وشكلت عملياً أولوية «الحرس» وافتتاحه المرحلة الجديدة. للمرة الأولى هُوجمت الناقلة «ميرسير ستريت» في بحر عُمان بطائرة مسيّرة وقُتل اثنان من طاقمها الأمني، بريطاني وروماني، وليس من قبيل الصدفة أن شركة بريطانية يملكها إسرائيلي هي التي تديرها. وللمرة الأولى أيضاً يصار إلى تعطيل نظام التشغيل في ست سفن بهجمات سيبرانية ثم تُخطف إحداها وتُفلت مع الإيحاء بأن خاطفيها قد لا يكونون إيرانيين. وللمرة الأولى كذلك تُضطر سلطنة عُمان إلى تحريك أسطولها بغية حماية الناقلات، فثمة تحد هنا يتخطى الطابع الودي للعلاقة بين السلطنة و«الجمهورية الإسلامية»، خصوصاً أن الهجوم على الناقلة المنسوبة لإسرائيل أطلق حملة دبلوماسية محمومة وتهديداً أمريكياً بريطانياً بـ«رد مناسب». أما إسرائيل فسترد على طريقتها، داخل إيران على الأرجح، وبتنسيق مع الأمريكيين والبريطانيين.

مع استئناف التوتير البحري، أراد «الحرس» استباق أي تفكير في رد مباشر على إيران، بعد اتهامها بهجوم الطائرة المسيرة، وبالأخص بعد ما ضاعف الإسرائيليون التلويح باستعدادهم لمهاجمة إيران. لذا عمد «الحرس» إلى التذكير بأن ميليشياته جاهزة للتحرك، وبما أن جنوب لبنان باق جبهة مفتوحة لـ«تبادل الرسائل» فقد أُفلتت منه صواريخ «لا علاقة لها بحزب الله» لكنها أطلقت بعلمه وبتوجيهات إيرانية. ردت إسرائيل أولاً بشكل متناسب، ثم بغارات جوية استدعت ردا صاروخياً معلناً باسم «الحزب»، وبعدها أكد الطرفان عدم رغبتهما في التصعيد، إلا أن مؤشرات الحرب على هذه الجبهة تتزايد على وقع انسداد سياسي ليس في تشكيل حكومة جديدة فحسب بل تحديداً بالنسبة إلى السياسات التي ستتبعها أي حكومة إذا قدر لها أن تبصر النور، فمن ينقذ الاقتصاد يحكم لبنان، وهذا لا يريح نظام الملالي.

في الوقت نفسه، لم يرض «الحرس» بالاتفاق الأمريكي - العراقي على سحب القوات القتالية والحفاظ على أنشطة التدريب والتسليح والتعاون الاستخباري، فأوعز إلى الميليشيات الولائية في العراق باستئناف الهجمات على القواعد العسكرية والمنطقة الخضراء، مع تكثيف استخدام الطائرات المسيرة. وفي الخط نفسه تندرج استهدافات الحوثيين للأراضي السعودية، بموازاة رفضهم المطلق لمبادرات وقف إطلاق النار وعقد مفاوضات سياسية. وحتى في سوريا يُتوقع أن تتكثف هجمات الميليشيات ضد الأمريكيين في الشمال الشرقي، أما حصار درعا وانتهاك اتفاقات التسوية بينها وبين نظام بشار الأسد فيُعزيان إلى الدور الإيراني عبر «الفرقة الرابعة» ورغبة النظام في الحد من النفوذ الروسي في جنوب سوريا. وتترقب دمشق وطهران بتشكيك وحذر نتائج المحادثات الاستراتيجية الجارية بين الأمريكيين والروس.

في الأثناء، ومع جمود مفاوضات فيينا عند الشروط والشروط المضادة، وفي انتظار حكومة رئيسي، ليس هناك تصور واضح للمناخ الذي سيسود انطلاق جولتها السابعة في ضوء استهجان خامنئي ربط واشنطن عودتها إلى الاتفاق النووي بإجراء مفاوضات لاحقة تتعلق بالبرنامج الصاروخي و«قضايا إقليمية». لم يكن له أن يتوقع شيئاً آخر، فالرئيس جو بايدن وجميع أعوانه وعدوا، قبل انتخابه وبعده، بالعودة إلى اتفاق نووي معدل، لإطالة مداه الزمني وتشديد قيود الالتزام والرقابة على أنشطة المنشآت، ومستكمل ببت الملفات المرتبطة به. لو قبلت طهران مساعي الوسطاء الأوروبيين، مطلع 2018، لوضع صواريخها وسياساتها الإقليمية موضع تفاوض، لما انسحب دونالد ترمب من الاتفاق النووي ولما شدد العقوبات. المؤكد أنها لا تزال ترفض.

لا شك أن واشنطن وطهران تريدان إحياء الاتفاق، لكن أسبابهما متباعدة وشروطهما متنافرة واستراتيجيتهما متناقضة. لا يمكن أمريكا رفع «كل العقوبات» والاكتفاء بالاتفاق النووي حتى مع تعديلاته التي لم تُحسم بعد، ولا يمكن إيران الإصرار على الاتفاق من دون تعديل وقبول رفع جزئي للعقوبات. كلا الطرفين يريد أن يؤسس لما بعد الاتفاق، ولذلك فإن تعثر المفاوضات وتعقيدها سينعكس على الواقع الميداني. الخيار الجاهز لدى «الحرس» هو العودة إلى سياسة حافة الهاوية التي سبق أن مارسها في مراحل سابقة من التفاوض، مستقوياً هذه المرة بأن ميليشياته المنتشرة لم تعد مجرد مجموعات مسلحة بطموحات محدودة، بل أصبحت «جيوشاً» موازية أو بديلة تملك أسلحة ثقيلة وصواريخ، ولم تعد ترضى لنفسها في بلدانها بمنزلة أقل من منزلة «الحرس» الذي أصبح الآن في صدارة النظام الإيراني.

ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»