من المعلوم الغني عن الدليل أن البطنة داء... فهي تعطل عن العمل، وهي عائق للتفكير، كما أنها - طبياً - عدو حتى للمتعة الحياتية الخاصة، وأنها عدو لدود للعاطفة، وملغية للشعور بمشاعر الآخرين، وتحضرني هنا إحدى النكات على إمبراطرة فرنسا (على مسؤولية أهلنا في شمال إفريقيا) عندما قيل لها: إن الشعب لم يجد من الخبز ما يأكله، فأجابت المشتكين مستنكرة مرشدة إلى الحل: ولماذا لا يأكلون (الجاتوه)؟؟.

والمبدعون يدركون معامل الارتباط العكسي بين الإبداع والجوع والظلمة والوحدة... إلخ. وأجزم أن ما بين البطنة والثقافة لمسافات هي ما بين الجهل والعلم!.

ولدينا ما الله به عليم من العوامل التي جعلت البطون تستحوذ كثيراً على الحياة الثقافية، بل وتصادر من المواطن مبالغ كان يمكن أن تصرف في أوجه البحث والطباعة، وفي مشاريع إنتاجية تخطو بنا لو خطوة في الاتجاه النهضوي.


- فعلى المستوى الاجتماعي:

قيل الكثير في المواعظ والخطب والكتب والصحف عن مدى الإفراط الزائف في المناسبات، ولم أسمع عن أحد ممن يمارس هذه العادة يبدي قناعته بما يعمله، فهو يُحضر عشرات الذبايح لضيفه، وعندما تناقشه تجده - نظرياً- واعياً بالخطأ، لكنه لا يملك تنفيذ قناعته، ترى أيحتاج المجتمع إلى قوانين صارمة ورقابة، وهل جبل نفسه ألا يمتنع عن عادة خاطئة بقناعته هو؟ وأن الرقابة على السلوك صارت مطلباً مدنياً إدارياً؟.

- وعلى المستوى الثقافي، الأندية الأدبية أنموذجاً:

إذ تقام بعض الأمسيات أو اللقاءات، فيصرف النادي على الضيافة ما يصرفه على إصدار ثقافي كامل أو إصدارين - حسب مستوى ضيف النادي -، وإن لم يفعل فليس كريماً، وسيعاقبه الضيف بتهمة سوء المعاملة والبخل، وتسأل الرئيس فتجده يشجب ويستنكره - وبقوة- الإسراف في كل مناسبة، لكنه عاجز عن التطبيق! ترى متى تكثر الأمسيات واللقاءات الثقافية على أنها لقاءات لا مناسبات؟ وهل مجتمعنا قابل لهذا؟ وما الأدوات والآليات التي يمكن تطبيقها لتحقيق ذلك؟ وهل كلمة (إدارة) ذات جدوى لإدارة دفة الثقافة؟ أم أن بعض زوايا الأندية ستبقى مجموعات عاطلة عن الثقافة والكتابة، معتقدة أن الثقافة هي النكت والسخرية على طريقة الجلوس والقهقهة في المقاهي العامة؟.

-وعلى المستوى الرسمي لنا في وزارة المعارف عظة:

النشاط الطلابي جوهر للعملية التربوية والتعليمية، وهو التطبيق المفترض لهما.

والمدرسة قلب نابض بالعطاء الاجتماعي والتثقيفي للمجتمع، إضافة إلى الدورة التربوي والتعليمي، وعندما تختار فقراتها المتميزة لعرضها في احتفال ختامي، نجد ما يثقل كاهل المعلم والطالب وولي الأمر والوزارة والوطن من المصروفات على ضيافة الزائرين من إدارة التعليم، بل وتجد إدارة التعليم نفسها إبان حفلها الختامي تثقل كاهلها بالضيافة المكلفة - وكأنك في حفلة من حفلات المناسبات التّرفة التي يحاربها رجال التربية والتعليم أنفسهم -.

وفي الريف، لا تسل عن كرم العربي الذي لا يمكن له ترك الزائر يزور مدرسة القرية دون ذبائح، في الوقت نفسه الذي تجده يعيش على مكافأة بنيه من الطلاب الذين تمنحهم الحكومة - أعانها الله علينا وعلى سلوكياتنا - مكافأة لتشجيع التعليم في الريف والمناطق الصعبة، وقد يكون حاصلاً على ميزة إعانة الضمان الاجتماعي.

ترى: لماذا لا يتابع مديرو المدارس الذين يتفاخرون ويتسابقون أو يتزلفون برؤوس أموال مدارسهم ومواطنيهم ووطنهم الذي هو أحوج إلى التسخير الأمثل لكل شيء؟ ثم أليس من أهم رسائل التعليم القضاء على كل عادة سيئة؟ وكما يقول المثل الشرقي: وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة... ثم ما علاقة البطنة بالفطنة؟.