احتضنت مكة المكرمة، في الرابع من أغسطس الجاري «ملتقى المرجعيات الدينية العراقية»، والذي ضم شخصيات سنية وشيعية، استجابة لدعوة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، «سعيًا للتأكيد على وحدة الكلمة، وموقف الجميع الرافض لخطاب الطائفية والكراهية والصدام»، كما جاء في بيان الرابطة.

أكتب هذا المقال، وأنا لا أعلم شيئا عن محتوى الاجتماع، ولا عن أجندته؛ ومن ثم، لا أعلم إن كان الملتقى تضمن، بحثًا في التقارب العقدي بين أتباع المذهبين، أم ركز على بحث سبل التعايش المدني بين الطائفتين. مع ذلك، فثمة تصريح للدكتور العيسى ربما يُستنتج منه أن الملتقى يهدف في المقام الأول إلى بحث سبل التعايش، وهو قوله في كلمته الافتتاحية: «ليس بين السنة والشيعة إلا التفاهم الأخوي والتعايش الأمثل، والتعاون والتكامل في سياق المحبة الصادقة، مع استيعاب الخصوصية المذهبية لكل منهم في دائرة دينهم الواحد...». وهنا نلحظ استخدام كلمتي«التعايش، واستيعاب الخصوصية المذهبية»؛ وهو ما يشيء بأن ثمة سعيا من الرابطة إلى تكريس فكرة التعايش بين الطائفتين، والتي تقتضي (تماهي) كل فرقة مع خصوصياتها المذهبية.

من نافلة القول إن محاولات التقارب بين الملل والنحل، سواءً أكان بين أديان مختلفة، أو بين مذاهب داخل الدين الواحد، قديمة قدم الأديان والمذاهب نفسها. محاولات عدة على مر التاريخ، لم يكتب لغالبها، إن لم نقل لكلها، نجاحا يذكر.

تُرى ما الذي كان يدفع إلى محاولات التقارب تلك؟

الحقيقة أن ثمة معلومة من تاريخ الأديان بالضرورة، وهي استحالة الوحدة الدينية بين بني البشر، منذ أن بدأ الإنسان يتدين، من جهة؛ واستحالة الوحدة المذهبية، داخل الدين الواحد، وذلك أيضًا نابع أيضًا من طبيعة التمذهب العقدي، وربما بشكل أخص من طبيعة الأديان نفسها. وذلك أن التمذهب نفسه لم يحدث داخل الدين إلا انطلاقًا من ادعاء حصرية الحق؛ فكل مذهب يرى نفسه أنه وحده القيم على الدين، وممثله الحقيقي؛ أما بقية المذاهب فليست إلا هرطقات وضلالات!

من هذه الحقيقة التي أكدها علم الاجتماع الديني، ولمّا يزل، جاد التاريخ الإنساني بمحاولات تقارب عديدة، خاصة بين المذاهب داخل الدين الواحد، استشعارًا ممن تولى كبرها أن ثمة خطرًا ماحقًا ينتظر الجميع، طالما كل مذهب يزعم حصرية تمثيل الدين، وتفسيره بمنطقه هو، وأن جماعته هم المتمثلون للدين حقًا. لكن تلك المحاولات، لم تكن إلا مجرد أحداث على هامش التاريخ الديني والمذهبي، لأنها لم تؤت أكلها يومًا ما، وتلك مشكلة مستعصية داخل المنطق المذهبي نفسه، وليس لنقص كفاءة من تصدوا لتلك المحاولات.

لنركز حديثنا على التقارب بين المذاهب، لكونه الأشهر، والأجدر بالبحث، بالنسبة لواقعنا العربي الإسلامي.

تُرى، لماذا لم يكتب النجاح لمحاولات التقارب المذهبي؟

أظن أن أي تقارب حقيقي بين مذهبيْن معينين، أو عدة مذاهب، يقتضي حتمًا تنازل المذاهب المشتركة في تجربة التقارب عن بعض أصولها، وإلا فلن يكون ههنا تقارب حقيقي؛ وهذا هو السبب الرئيس في فشل محاولات التقارب.

لنطبق هذا المنطق على أصول كل من الشيعة والسنة (نعني بالشيعة هنا: الشيعة الاثني عشرية الإمامية، لكونهم الفرقة الأكبر والأبرز من بين طوائف الشيعة؛ ونعني بالسنة: كلا من السلفية والأشعرية).

لدى الشيعة أصول عقدية، لا يمكنهم التقارب مع السنة إلا بالتخلي عنها. لنأخذ الإمامة كنموذج فحسب. فالإمامة عندهم أصل من أصول الدين، لا يجوز للنبي إغفالها؛ أو كما قال ابن خلدون في المقدمة «الإمامة عندهم ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة بحيث يتعين القائم بها بتعيينهم، بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم». وهذا الأصل يرتب أصلا آخر، وهو أن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الإمام الموصى له بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وفق نصوص قاطعة عندهم لا يجوز تأويلها، ناهيك عن تعطيلها. وهذا الأصل يرتب أصلًا آخر أيضًا، وهو تسلسل الأئمة في عقبه من ذرية فاطمة إلى الإمام الاثني عشر المختفي؛ وكلهم معصومون من عصمة النبي. كما أنهم، أو جلهم على الأقل، يُخَطئِّون الصحابة الذين بايعوا أبا بكر وبعده عمر فعثمان، إذ يرون أنهم حادوا عن الصواب في فعلهم (لنغض الطرف عن غلاة الطائفة، الذين يطعنون في الصحابة، خاصة الخلفاء الثلاثة).

أما السنة فالأمر عندهم يختلف جذريا، إذ يعتقدون أن الإمامة تعقد باجتهاد أهل الحل والعقد من الأمة. ولهم أيضًا نصوصهم وآثارهم وحججهم التي يرون أنها أيضًا قاطعة في اعتقادهم ذاك. كما لا تسلسل عندهم في الأئمة، ولا عصمة للخلفاء.

هذا، بالإضافة إلى اختلاف أصول التشريع، سوى القرآن، بين الطائفتين، واختلاف الأحكام، سواء في باب المعاملات، أم في باب العبادات.

أمام تلك المعضلات، هل يمكن الحديث عن تقارب عقدي بينهما، انطلاقًا من تنازل عقدي من كل منهما؟

التاريخ خير معلم. وتاريخ التقارب بين الطائفتين أثبت فشل أي محاولة من هذا النوع، نظرًا لمعضلة الأصول العقدية المتباينة. دعك مما يقال عن المشتركات العقدية، مثل أصول الإيمان الكبرى، فليست هي التي تقود العلاقة بين الطائفتين. بل إن الذي يقودها هي تلك الأصول التاريخية التي نشأت من رحم الصراع السياسي بينهما، اعتبارا من معركة صفين، وما تلاها من أحداث سياسية (ديّنها) التاريخ لاحقا. ومن ثم، لا سبيل أمام الطائفتين، وزعمائهما، والسياسيين المخلصين إلا تدشين فضيلة التعايش بينهما؛ وهو ما يعني ترك كل طائفة تتماهى مع أصولها ومرجعياتها، على النحو الذي يرونه متفقًا مع خلاصهم المنتظر، دون أن تفرض طائفة منها معتقداتها على الأخرى؛ بغض النظر عن قناعة كل طائفة بأصول ومعتقدات الطائفة الأخرى. مع مراعاة كل منهما القانون العام، والعمل على استدامة النظام القائم، والرهان على وحدة الوطن؛ والتعامل بين مواطنيه على أسس مدنية بحتة. وإذا كان التقارب، كما أشرنا أعلاه، وبشهادة التاريخ مستحيلًا، فلا مفر من إحلال التعايش؛ وإلا فنحن موعودون ببحور من الدماء وخراب الأوطان. وما يحدث في بعض دول محيطنا مثال ناصع لما نقول. وما محاولة رابطة العالم الإسلامي، إلا خطوة هامة، وجديرة بالاحتفاء، على طريق إحلال تعايش يخرج الطائفتين من ليلهما البهيم.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.