كثيرًا ما يسأل السائلون: ماذا يعجبنا من الأزهار والرياحين؟

وكأنهم إذ يسألون ذلك السؤال يحسبون أنها خُلِقَت لِتُعجبهم وتسرَّهم، فيحيِّرهم ويضني عقولهم أنهم لا يعرفون كيف يكون ذلك الإعجاب والسرور ...

وما خُلِقَت زهرةٌ واحدة من هذه الأزهار لنا، ولكنها خُلِقَت لنفسها، وما لبست تلك الألوان والمحاسن لتروقنا ولكنها لبستها لأنها لا محيص لها عن لُبسها، وإنما السر في كل ما يخامرنا من السرور بها، أن للزهرة في الطبيعة معنًى يوافق معنًى في نفوسنا، ويكون ظهوره دليلًا على السرور، الذي شاع في الأكوان قاطبةً — وشاع في نفوسنا أيضًا — لا خالقًا لذلك السرور ولا سابقًا له في الوضع والترتيب، فنحن لهذا نبتهج حين يبتهج الزهر، ونشعر بنمو الحياة فينا حين تنميه الحياة، ونتوافى على موعدٍ واحد من مواعد الطبيعة، التي تعدُّها لإمتاع أبنائها جميعًا بخير ما عندها من الهدايا والألطاف، ونحن حين يشيع في نفوسنا الفرح بالحياة، ويستخفنا الطرب بالوجود نستجمل كل شيءٍ نراه — ولا نستجمل الزهر وحده — وننظر إلى الموجودات كافةً نظرةَ الخالدين، الذين لا يرون فيها قبحًا ولا يحسون فيها نقصًا، لأنهم ينظرون إليها بعينٍ تنزهت عن الاحتياج الفاني والاعتبار الموقوت، فلا يلمحون فيها إلا كيانًا كاملًا مطلقًا سكران ملء السُّكْر بنعمة الوجود.

لماذا نطرب للزهر؟

عجبًا ألا نقول لماذا نطرب وكفى ...! فإننا لا نطرب للزهر ولا الزهر يطرب لنا، وإنما نحن جميعًا نكرع من مَعينٍ متقارب ونشرب الطرب بأقداح متشابهة.

وهل تظن أن الزهر أولى بأن يكون جميلًا بهيجًا، محبًّا محبوبًا حيًّا، ناميًا منا نحن الأحياء الشاعرين في أوان الربيع؟!

أيضوع الزهر ولا تضوع أرواحنا؟! أيتفتح الزهر ولا تتفتح قلوبنا؟!

أينمو الزهر ولا تنمو شواعرنا؟!

أيجمل الزهر ولا تجمل حياتنا؟! أيطرب كل شيء تحت السماء ولا نطرب نحن حتى يجيء الزهر فيطربنا بألوانه وأعطاره، وما يترقرق فيه من ماء النضارة والشباب؟!

ذلك ما ليس يخطر ببال ... وأحسب لو أن الربيع بقي لنا وخلا وجه الأرض من كل ناجمةٍ ونابتةٍ لما نقصت نشوتنا بجمال الحياة شيئًا، ولا افتقدنا في خارج نفوسنا دليلًا من دلائل الغبطة والشوق، ولا غاب شيء من تلك الدنيا التي تشتمل عليها الضمائر والقلوب.!

بيد أننا إذا نظرنا إلى الأسباب القريبة نجد للزهر جمالًا، يلقانا به من عنده، قد يضاعف شعورنا بالجمال أو يوقظ فينا شعورنا الساهي في غمضة الإغفاء، وليس يلحظ هذا الجمال إلا نفوسٌ يسري الشعور إلى عروقها الدقيقة، وينبض في أوتارها البعيدة،ويكبر الهمس الضعيف فيها كما يكبر الصدى في بعض القباب المتجاوبة، هذه النفوس قد مَرَنَتْ على الإحساس ودربتْ على الجليل والدقيق منه، واتصلت مسالكها من أظهر منافذ الإحساس إلى أخفاها ومن أخفاها إلى أظهرها، فتهزها النغمة الخفية حين ينام غيرها على قرع الطبول، وتجوبها الإشارة الطفيفة حين تمتنع منافذ غيرها على غير الدفع والاقتحام، وكأن لبصائر هذه النفوس مجاهر وأبواقًا، تُجسِّم بها الصغير وتُقرِّب بها البعيد فتبصر حين يُغمض غيرُها عينيه، وتسمع حين يوصد غيرها أذنيه، أو كأن لها أثيرًا روحيًّا يجتذب الأصوات من أبعد الأبعاد كما يجتذب الأثير كلمات المتكلمين من وراء البحار السحيقة، والسامعون لها في مواضعها يحسبونها قد ضاعت مع الريح.

فللزهرة رسالة إلى هذه النفوس تنقلها من قريبٍ، وهي في الوقت نفسه توميء إلى أبعد آماد الطبيعة وأعمق قراراتها، وهي تصغي إلى تلك الرسالة فتسمعها على درجاتٍ متفاوتةٍ من الوضوح والفهم، فإن سمعت أصواتها فمثلها في ذلك كمثل الذي يسمع نبضات البرق بعلامات الحروف دون أن يهتدي إلى فك رموزها وتركيب ألفاظها، وإن زادت على ذلك فقد سمعت العلامات وفكت الرموز وركَّبت الألفاظ، وخلصت منها إلى المعاني والأسرار، وهي في الحالتين تتلقى من الزهرة حياةً قد يحتاج غيرها إلى كل عُدَدِ الربيع وجنوده، ليتلقى بعضها أو يحس قُربها، ثم هو لا يتلقى ذلك البعض ولا يحس ذلك القُرب إلا على صورةٍ غليظة شوهاء محرومةٍ من دقة التفصيل ووضاحة التمييز.

1943*

* كاتب وأديب مصري « 1889 - 1964».