قُضي الأمر ولم يعد هناك أي غموض. الانسحاب الأمريكي من أفغانستان هو انسحاب من المنطقة، من «الشرق الأوسط الكبير». أمريكا تريد بهذا الانسحاب أن تغادر مرحلة «ما بعد 11 سبتمبر» وما قبله، لكنها تؤسس لمرحلة أكثر اضطرابًا. فالقوى البديلة المرشّحة لملء الفراغ، كالصين وروسيا أو حتى إيران، ليست معروفة بتقديمها نماذج أفضل في أي مكان. الأخطر أن ما تبقى من وجود عسكري أمريكي هنا وهناك لم يعد يوحي بأي ثقة، ولا بأي هدف مستقبلي للدول والشعوب التي كانت ولا تزال تعوّل على غطاء أو حماية أمريكيين. وفيما ينهال اللوم حاليًا، داخل الولايات المتحدة وخارجها، على إداراتها المتعاقبة التي توارثت تباعًا أنماط التعامل المختلّ مع الشأن الأفغاني، تتبدّى نتائج الأخطاء والفشل أكثر سوءًا من نتائج الهزيمة. كان الغزو الأمريكي أوهم الأفغان بأنه أزال كابوس «طالبان» ومنحهم حلمًا ببلد يمكن أن يعاش فيه، وها هو الانسحاب يسرّع عودة الكابوس ويقتل كل الأحلام.

ما انهزم في أفغانستان ليس القوة العسكرية بل المشروع الأمريكي بكل جوانبه، وتتحمّل واشنطن المسؤولية بمقدار ما تقع أيضًا على عاتق الطبقة السياسية الأفغانية التي أتيحت لها فرصة تاريخية وأضاعتها بفساد أسطوري وصراعات فئوية بلا نهاية. المسؤولية الأمريكية بدأت بإنشاء أفضل نظام سيئ بين المتاح لها في كابول، وتكمن مسؤولية الأفغان في أنهم لم يبذلوا طيلة عشرين عامًا الجهد الضروري لتصحيح ذلك النظام وإصلاحه وتطويره، بل الأهم أنهم تجاهلوا أسباب استمرار «طالبان» وقوتها واحتفاظها ببيئاتها الحاضنة، فلو أن جزءًا يسيرًا من التريليوني دولار خصّص لتنمية المناطق، إلى جانب الإنفاق العسكري، لما استطاعت «طالبان» شحن جمهورها ضد فساد الطبقة الحاكمة. وأخيرًا، لعل الفشل الأمريكي - الافغاني الأكبر يتمثّل في عدم إنتاج أي مرجعية وطنية مقبولة تعيد توحيد البلاد وتشكّل بديلًا من «طالبان».

كان المشروع الأمريكي انهزم أيضًا في العراق، وقبل الانسحاب في 2011 تعجّلت سلطة الاحتلال إنشاء نظام جديد فبادرت إلى إلغاء الدولة القائمة وجيشها إرضاءً لـ «حكام جدد» بدَوا مؤهّلين لكلّ شيء باستثناء بناء دولة لجميع العراقيين، وإذ تلقّوا الرشى الأمريكية الفلكية راحوا يجهرون بالولاء لإيران الولي الفقيه ويمأسسون فسادهم ويقيمون دويلات لأحزابهم وميليشياتهم. وفي السياق أُثيرت كل الانقسامات ونُبشت كلّ الرواسب التاريخية، وبالتالي جرى تصنيع الفتنة التي أفرزت تنظيم «داعش» على نمط أكثر إجرامًا ووحشية من «القاعدة». هنا أيضًا كان الفشل في بلورة حكم مستقرّ مسؤولية أمريكية بمقدار

ما كانت إيرانية - عراقية. ثم إن الحرب على الإرهاب قوّضت الاقتصاد وأتاحت لإيران وميليشياتها فرصة إقامة ازدواجية بين الجيش الحكومي و«الحشد الشعبي» كجيش موازٍ. ومع أن حكومة مصطفى الكاظمي استطاعت أن تسجّل نقاطًا لمصلحة الدولة، إلا أنها اضطرّت لطلب تقليص الوجود الأمريكي في العراق، في حين أن النفوذ الإيراني يترسّخ ويزداد ضراوة كما لو أنه يستوحي نموذج «طالبان».

أدّت الحربان والاحتلالان إلى النتائج الكارثية ذاتها في أفغانستان والعراق، مع فوارق ضئيلة. لكن كلفتها وتداعياتها كانت أبعد أثرًا على المستوى الجيو- استراتيجي إذ ساهمت في تعاظم قوة الصين الطامحة اليوم إلى منافسة الولايات المتحدة، وليس فقط في التجارة، كما أعادت روسيا إلى اللعب على الساحة الدولية وكأن تراثها السوفياتي نموذج جذّاب. بالطبع تتطلّع واشنطن إلى المواجهة الكبرى في جنوب شرق آسيا، إلا أن خسارتها المدويّة في أفغانستان كشفت تراجعًا ستظهر آثاره السلبية أكثر فأكثر في كل الأدوار التي كانت تؤدّيها أو تحتكرها في «الشرق الأوسط الكبير». فحيثما تتطلّع اليوم ترى نزاعات كانت لها يدٌ في إشعالها أو إذكائها لأهداف محدّدة، إلا أن أطرافًا أخرى تنازعها بل سبقتها إلى تلك الأهداف.

من أفغانستان إلى سورية والعراق، إلى اليمن ولبنان وفلسطين، تجد الإدارة الأمريكية أن مجالات التدخّل لا تنفكّ تضيق. ساد الظن لفترة أنها تفاهمت مع حركة «طالبان» على خريطة طريق للانسحاب وما بعده، خصوصًا بالنسبة إلى المرحلة الانتقالية، لكن التحرك السريع للحركة وإصرارها على السيطرة العسكرية الكاملة لم يتركا مجالًا للشك بأنها لم تأخذ في الاعتبار سوى الانسحاب واستعادة السلطة وإخضاع الجيش الافغاني الذي يفوقها عددًا والاستيلاء على سلاحه الأمريكي المتطوّر. لم تعد حكومة كابول مستضعفة بل مهمشة ولا مصير لها سوى السقوط. ولا غرابة فهذه هي «طالبان»، ولم يكن متوقّعًا منها إلا استبدال غزوها واحتلالها بالغزو والاحتلال الأمريكي. ولا أهمية لكونها من المكوّنات الأفغانية طالما أنها تعامل شعبها بنهج تهجيري واضطهادي.

الواقع أنه حيثما تدخّلت واشنطن أو تريد التدخّل فإنها لا تجد سوى ميليشيات مستقوية ودولا مهشّمة وجيوشا مهمّشة وحكومات صُوَريّة مستضعفة. ففي العراق لا يمكن تفادي «الحشد الشعبي» الذي يؤدّي وظيفته الإيرانية تمامًا كما رسمها له «الحرس الثوري». كذلك يفعل حوثيّو إيران في اليمن حيث باتت الحكومة الشرعية الحلقة الأضعف بين انقلابيي الشمال وانفصاليي الجنوب، و«حزب الله» الإيراني في لبنان حيث لا قول للدولة بل لـ «الحزب» في قرار الحرب والسلم أو في الأزمة الاقتصادية، كما تفعل حركتا «حماس» و«الجهاد» الإيرانيتان في فلسطين حيث تشاركان إسرائيل هدف تقويض السلطة الفلسطينية، وإنْ بدوافع مختلفة. وحتى في سورية لم تعد روسيا قادرة على ترويض التواطؤ الإيراني - الأسدي لتتمكّن من التفاهم مع الولايات المتحدة على تسوية سياسية للأزمة.

خلال الوجود الأمريكي في أفغانستان جهدت دول الجوار لتعزيز قدرات «طالبان» وتمكينها من إلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة. ستتغيّر اللعبة الآن لأن الانسحاب الأمريكي يطلق مرحلة تحوّلات إقليمية بدأتها الدول المحيطة بأفغانستان بالشكوى من عودة المجموعات الإرهابية إلى الظهور مستفيدةً من علاقاتها مع «طالبان»، وستضطر هذه الدول للتعامل لاحقًا مع حرب أو حروب أهلية. أما خطط أمريكا لتكليف دول إقليمية مثل إسرائيل وتركيا إدارة الشرق الأوسط العربي فتعثّرت، سواء لأن إيران تغلغلت في أربع دول إضافة إلى فلسطين، أو لأن روسيا دخلت على الخط وأقامت منظومات مصالح مع الدول الثلاث. فهل تخفّف أمريكا المغادِرة شروطها للتفاهم مع روسيا وإيران؟.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»