محمد بن عبدالملك الزيات، طغت شهرته في كتابة النثر على موهبته في إبداع الشعر، وظل معدودًا بين كتاب عصره وناثريه الكبار، على الرغم من أن له ديوانًا شعريًا نشر في مصر عام 1949 بعد أن قدم له الدكتور جميل سعيد - كما يقول كاتب سيرته في كتاب الروائع من الأدب العربي (الجزء الرابع - القرن الثالث الهجري). والذين يتحدثون عن محمد بن عبدالملك الزيات لا تفوتهم الإشارة إلى أنه من أسرة عرفت بتجارة الزيت حتى غلبت عليها، وأن أباه عبدالملك قد ورث هذه التجارة عن أبيه وزادها حتى أصبح من أكبر تجار «الكرخ» ولم يقصرها على الزيت بل جعلها لكل ما يلزم قصور الخلفاء. ولم يكن الابن على غرار أبيه وجده من قبل تكوينًا وميولًا. فقد نشأ محبًا للأدب، متطلعًا إلى الإحاطة بثقافات عصره، طموحًا إلى أن يكون له في مقبل الأيام موضع في ديوان الخلافة، حيث كبار كتاب العصر من ذوي الأسماء المدوية والمنزلة العالية والأساليب الرفيعة.. ومن هنا كان تحركه إلى مجالس الأدب التي امتلأت بها بغداد وعمرت بها مساجدها، يحصل ويجمع، وينتقي ويختار، ويسأل ويبحث عن الإجابة، ويدور دورته الكاملة مع معرفة عصره وزمانه، إحاطة وتوثيقًا.. مما أهله ليكون الكاتب اللامع بين كتاب الديوان في أواخر عصر المأمون، ثم إذا به يصبح وزيرًا للمعتصم، ثم لابنيه -من بعده- الواثق والمتوكل. ولم ينج محمد بن عبدالملك الزيات -على الرغم من ذكائه وبصره الثاقب بالحياة والناس- مما يقع فيه عادة الحريصون على القرب من السلطان، طمعًا في نفوذ أو رغبة في سلطة أو مرتبة. فهم عادة أول ضحايا تقلب المزاج وسوء المنقلب. وهكذا لم تسلم العلاقة بين ابن الزيات والمتوكل من وشاية جعلت المتوكل يأمر بالقبض على ابن الزيات ومصادرة كل ثروته، وظل نزيل السجن حتى كانت وفاته - كما يقول كاتب سيرته - في ربيع الأول سنة مائتين وثلاث وثلاثين هجرية. وقد لقيت كتابات ابن الزيات النثرية كثيرًا من الحفاوة والإشادة، ودارت سطور مختارة من رسائله وكتاباته على أقلام ذاكريه وعارفي فضله والمنقبين في آثاره. وهي رسائل تتصف بالقصر البليغ والإيجاز غير المخل، والقدرة على الإحاطة بالفكرة من كل جوانبها في عبارة يسيرة وكلمات معدودة. إنه ليس من كتاب الاسترسال والإفاضة كالجاحظ، ولا من كتاب التضمين والاقتباس والاهتمام بأقوال الآخرين كابن المقفع، ولا من المؤثرين للصنعة ومعايير البلاغة -بلاغة ذلك الزمان وبيانه وفصاحته- كابن العميد. لكنه بين هؤلاء جميعًا، وغيرهم، أكثرهم ميلا إلى الاقتصاد، وإلى الإبانة في يسر، من غير عنت أو مشقة، إنه السهل الممتنع، والبليغ المحكم، حيث لا حشو ولا إطناب ولا فضول. وقد عده الأستاذ محمد كرد علي واحدًا من أمراء البيان المشهود لهم بالسبق والتقدم، في سياق اختياره لنماذج من رسائل ابن الزيات القصيرة، أما شعره الذي توارى وراء نثره، ولم يلتفت إليه بالقدر نفسه من الاهتمام، ولا بالرغبة في الكشف والاقتراب، فقد ظل بعيدًا عن المتابعة والدوران، وقنع الناس بهذا التصنيف الذي تواتر لابن الزيات في سلك الناثرين والكتاب. على الرغم من أن شعره -كما سنرى في النموذج الذي اخترناه من بين قصائده- عامر بإفضاءات وجدانه الكاشفة عن عمق إنسانيته ورقة طبعه وحاشيته ونفاذ بصره وبصيرته. ثم هو شعر يجري في مجرى الرصانة وقوة السبك وإحكام القول، شأنه في هذا شأن المدرسة الشعرية التي ذاعت في زمانه وتركت تأثيرها عميقا في الحياة الأدبية ونجحت في صياغة الذوق الشعري وتشكيله على صورتها وهيئتها. لكن هذه الصياغة الرصينة لم تفقد هذا الشعر تدفقه وانسيابه وجريانه، ليصبح في النهاية شعر الطبع لا شعر الصنعة، وشعر النفس لا شعر المشهد الخارجي أو الحدث الخارجي. وإلا فبماذا نفسر هذه العاطفة الجارفة في افتقاده لفرس أشهب أخذه منه المعتصم وكانت تربطه بهذا الفرس علاقة حميمة وألفة نادرة فيبدع ابن الزيات في الكشف عما أحدثه فراق فرسه من زلزال نفسي عميق. يقول ابن الزيات: أنساك؟ لا برحت إذن منسية نفسي، ولا زالت بمثلك تنكب أضمرت منك اليأس حين رأيتني وقوى حبالك من قواي تقضب ورجعت حين رجعت منك بحسرة لله ما صنع الأصم الأشهب وغير بعيد عن هذا الفيض من الشعور الإنساني العارم، لوعته عند فراق زوجته، وقد خلفت له ابنًا صغيرًا، فهو يبكيها ويبكي نفسه وزمانه ومصيره، وهمه المتمثل في وحيده الصغير يبحث -دون جدوى- عن أمه.. يقول ابن الزيات: ألا من رأى الطفل المفارق أمه بعيد الكرى، عيناه تنسكبان رأى كل أم وابنها غير أمه يبيتان تحت الليل ينتجيان وبات وحيدًا في الفراش بحنة بلابل قلب دائم الخفقان القصيدة فريدة في بابها، باب نجوى النفس، ومراجعة تغير الحال والزمان، وتقلب الناس والمصائر، وهي مونولوج نفسي حافل، يأخذ بنا إلى فضاءات هذا العالم الإنساني الرحب الذي يحتويه وجدان ابن الزيات، وإلى دقائقه وتفاصيله، جزرًا ومدًا، وتأملا ومراجعة. ثم هي فريدة في الكشف عن بعض أسرار هذا العالم الخفي الذي تدور فيه العلاقة بين الشاعر ومن يتحدث عنها ويختصها بالخطاب الشعري، ويتوقف عند تأثيرها العميق في نفسه، وولائه لها الذي لا يقاوم، وهو يذهب في تصوير عمق هذا التأثير إلى الدرجة التي تجعله مقتنعًا بأن ضميرها مطلع على ما يأتيه من أفعال لا تعلمها، كأنها رقيب لا تخفى عليه خافية.

1996*

* شاعر وكاتب مصري «1936- 2016»