لا أحد يعلم إلى أين ستتجه الأوضاع الملتهبة في الأراضي الأفغانية، بعد أن سيطرت حركة طالبان على البلاد بقوة السلاح. وكيف ستنفض الدولة عباءة رئيسٍ «شبه طبيعي» يشبه غيره من بني البشر على أقل تقدير، وتتحول إلى الجلباب الطالباني الكبير، الذي يُمثله مجموعات من المتعطشين للدماء وحمل السلاح والسلطة، وماذا يعني تحول اسم البلاد من جمهوريةٍ بالحد الأدنى، إلى «إمارةٍ إسلامية».

وما شعور الإنسان الأفغاني الذي يعرف جيداً ماذا يعني قبضة حكم طالبان. وبينما ينشغل العالم بالمراقبة والحذر «مُتجاهلاً الأسباب التي دفعت لإعادة هذا الجزء من العالم إلى سابق عهده»، تُشكل الأخبار القادمة من الشرق العناوين الكبرى في شتى أنحاء الأرض. فرئيس الجمهورية «السابقة» فرّ من البلاد حسب ما يقول خشيةً من «حمام دم»، قد يلد بعد أن بلغت طالبان العاصمة كابول، وأطبقت قبضتها على شتى مناحي الدولة، واستعرض رموزها في ممرات القصر الرئاسي، ما تسبب بخلط أوراق السفارات الأجنبية، التي انشغلت بإجلاء الرعايا في ظل ترقب يسوده الحذر.

ثمة ما يقودني لطرح سؤال رئيس، حول من يتحمل مسؤولية إعادة التطرف للواجهة من جديد في أفغانستان؟، وما الثمن؟. الجواب: الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن أمضت قرابة عقدين من الزمان، تسعى جاهدةً للانتصار على جماعةٍ مسلحة في الأراضي الأفغانية، إلا أنها خرجت تجر أذيال الهزيمة.

ليس ذلك وحسب، بل وكأن وراء الأكمة ما وراءها، إذ يُمكن أن يتخيل أحدنا بأن هناك رغبةً أمريكية إلى دفع العالم لمواجهة تلك الآفة. بمعنى أدق «توريط العالم»، بعد أن عجز «الشرطي الدولي»، عن كسر شوكة ثُلة من المقامرين، رغم عتاده وعديده.

وهذا بالمعنى السياسي والأخلاقي فشل مُتتالِ للإدارات الأمريكية السابقة، التي راهنت على قوة ترسانتها العسكرية. ما المقصود بعودة التطرف للواجهة؟، يعني فتح المساحة الأفغانية على مصراعيها، لأن تصبح ملاذاً للقادمين من سوريا والعراق وليبيا، باعتبارها الدولة ذات الباع الطويل، في إيواء تلك الأطراف الإرهابية.

وذلك يعني بكل صراحة أن العالم على موعد مع عودة الأطراف الخامدة والهامدة من تلك التنظيمات، كالقاعدة، وداعش، وطالبان ذاتها، وربما بعض المتحمسين والجهلة، ومن يُطلق عليهم «أوراق الحرب»، فقد يحين الوقت لإحراقها.. لكن أين؟، الله أعلم.

إذ لا أحد بمنأى عن شر تلك الجماعات والخلايا، التي يُمكن تجد أن الوقت قد حان للثأر لمن سبقها، في بحار وأنهار الدماء والشتات. وبعيداً عما سبق، قد يرى البعض «وأعتقد أنني منهم»، من خلال تمهيد الأرضية لحركة طالبان للانقضاض على السلطة، أن ذلك من باب التماهي الأمريكي المعروف مع جماعات الإسلام السياسي، كتجربة الإخوان المسلمين في مصر، ومشروع «الفوضى الخلاقة» الذي سرعان ما تحول إلى مسمى «الربيع العربي»، وهو ما شكّل الكذبة الكبرى، التي مررتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون.

وأتصور من هذا الجانب أنه تجب الإشارة إلى أن الصمت المطبق، على إرهاب جماعةٍ فاشيةٍ دينية تحكم الجمهورية الإيرانية، هو من الباب ذاته. أي باب دعم جماعات التدين السياسي.

قد يُخالفني الرأي من لا يرى في ذلك أي نوع من أنواع الوجاهة، وأقول إن ذلك ما كشفته على الأقل السياسة الأمريكية، خلال السنوات العشر الماضية. ومن خلال هذه النافذة، يُمكن تصور «التشابه الأمريكي والإيراني» ومن يسير في فلكه من أحزاب وشخصيات مرتزقة، كيف؟.

يُمكن استنتاج ذلك من قول الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير خارجيته، أن «واشنطن حققت أهدافها في مكافحة التهديد الإرهابي». هذا غير صحيح. فالقوة الضاربة قبل انسحاب العتاد الأمريكي، عادت لقبضة حركة طالبان، التي بدأت بالسيطرة مبدئيا على الحدود مع الدول المجاورة، وتواصلت في السيطرة على المدن والأقاليم، وذلك يشبه إلى حدٍ كبير شعارات النصر المزيفة، من خلال الدعاية الكبرى التي تنتهجها ولاية الفقيه، وأوراقها الرخيصة في المنطقة.

أتصور أن عودة حركة طالبان لحكم بقعة من العالم، يعني منح مُكون من مكونات الإرهاب شكلاً من الشرعية، الذي قد يكون في يومٍ من الأيام بمثابة جسر لعودة «كانتونات» الإرهاب، و «بازارات» التطرف المعروفة، والتي لا يزال الكثير منها يملك الشهوة والرغبة في تنفيذ أجندة وجودية، على من يُفترض أن يرتضوا بها من باب الخوف أو القبول «وهم قلة أو نادرون»؛ وذلك يعني بنهاية الأمر، العودة لفتح سراديب السلاح، وحفر مزيد من القبور بلا شواهد، ويؤكد الرجوع لإرث تاريخي مقيت، متعته القصوى السير في أزقة الأوطان والخوف يُخيم على الجميع، دون تفرقة بين ذكرٍ وأنثى وشيخٍ أو طفل.

إنه أمرٌ مُقزز في أقصى درجاته، أن تعمل الماكينة العالمية على شيطنة طرفٍ ما لعقودٍ مضت، ومن ثم يلتقط ذاك الطرف الصور التذكارية، مع من اتخذ قرار إزاحته من المشهد العالمي بقوة السلاح والعتاد.

إنه استغفال العالم واستغباء للعقول. أردت قول «استحمار» للعالم الآخر، إنما تراجعت عن ذلك!.معروفٌ في دهاليز السياسة والخصومات والنزاعات، أن ما لا يمكن تحقيقه بالتفاوض، سيحققه السلاح دون أدنى شك. إلا أن المعادلة انقلبت مع الإدارة الأمريكية الحالية، وجماعات «الثينك ثانك»؛ أو مُفكري المرحلة. يتضح أن واشنطن أفلست من عامل السياسة الرصينة، وانتهجت سياسةً ستؤثر في مصداقيتها وثقلها العالمي، وتعمل على تفريغها من المضمون الذي طالما تغنت به، والمرتبط بحريات الشعوب وحقوق الإنسان. أتصور أنه لم يتبق إلا انتظار مد اليد الأمريكية لتنظيم القاعدة، وداعش، وجماعة الإخوان المسلمين، وجماعة بوكو حرام، وحزب الله، وحركة حماس، وعصائب أهل الحق، والفاطميين، والحرس الثوري، وجماعة الحوثي، والدخول مع أولئك المارقين في اتفاق وهدنه رسمية.

إنه الإفلاس بكل وضوح وتجلِ. حتى يحين ذلك الوقت. لا أملك إلا قول «جو بايدن.. كيف الحال».