في عام 1977، قامت باتريشيا كروس بدراسة، شملت أساتذة الجامعة، بحيث كان المطلوب من العينة تحديد مستواهم بالنسبة للأداء المتوسط، فوجدت أن أكثر من 90% من أعضاء هيئة التدريس قد صنفوا أنفسهم فوق المتوسط، وثلثي هذه النسبة وضعوا أنفسهم في الربع الأعلى من التصنيف!.رأت باتريشيا أن هذا ليس فقط غير منطقي، بل يظهر لنا تحديا حيث إن هذه الرؤية الذاتية بدورها تعيق الرغبة في التحسين، والارتقاء بالقدرات والمهارات التدريسية، و ذكرت باتريشيا مؤخرا في مقابلة أجريت معها، بأن ليس لديها سبب للاعتقاد بأن الوضع قد تحسن، وقالت: «أحاول مواكبة قراءاتي في التعليم العالي، وانطباعي من ذلك هو أن أساتذة اليوم يهتمون بـــ «النشر والاستشهاد النصي لأعمالهم» أكثر من اهتمامهم بالتدريس في قاعة المحاضرات»، وإليكم أيضًا دراسة لسفنسون 1981، والتي أجريت على شكل استطلاع، حيث أفاد أكثر من 94% من المشاركين أنهم سائقون فوق المتوسط، بينما صنف أقل من 1% أنفسهم «أسوأ من المتوسط»، رغم أن جميع المشاركين قد ذكر بأنه تسبب في فترة ما في حياته بحادث، بل إن الكثير من الدراسات التي جاءت بعد هاتين الدراستين، أظهرت أن الناس يصنفون أنفسهم، أعلى من المتوسط في الإبداع والذكاء والاعتمادية والرياضة والصدق...إلخ. قم بمسح لأي سمة تقريبا وستجد أن الغالبية العظمى، سوف تصنف نفسها فوق المتوسط، بالرغم من أنهم يعلمون أنهم عكس ذلك في كثير من الأحيان! المغزى هنا، إن كنت تعتقد أنك جيد وأنك أفضل من الآخرين، فما هو دافعك للتطور والنمو مهنيا من حيث المهارات والقدرات؟.
نعم نحن نحتاج إلى الثقة، خاصة الثقة بالذات، ولكن هذه الثقة يجب أن تكون نابعة عن إنجازات وتجارب ونتائج فعلية، فالاعتقاد المبني على الدليل هو الثقة، أما المبنى على لا شيء سوى الإيمان بالذات، ليس إلا تكبرا وغطرسة. لقد ذُكر بأن الأذكياء يراجعون فهمهم، ويعيدون النظر في مشكلة اعتقدوا بأنهم قد حلوها بالفعل، وأنهم عادة ما يكونون منفتحين على وجهات نظر ومعلومات وأفكار وتناقضات جديدة، أي أنهم في تحدٍ دائم لطرقهم الخاصة في التفكير، ولقد تم التوصل إلى أنه كلما زاد استعداد الفرد للتفكير في احتمال أن يكون مخطئًا، كانت نسب اتخاذ الخيارات الأفضل أعلى، ليس هذا فقط، بل يقل احتمال أن تصنيف الآخرين بنوع من الثقة المفرطة غيرالمعقولة، والتي قد تؤدي إلى اتخاذ قرارات غير مدروسة وغير حكيمة، وكل هذا ليس إلاّ لأن صاحب هذا المسار، ممن يؤمن بالتواضع الفكري، أي بمعنى آخر، يتجنب تأثير «الأفضل من المتوسط». نعم كل منا لديه رغبة في التفكير في أنه فريد من نوعه، لأن الاعتراف بأنني «مثل الأشخاص الآخرين» يهدد التفرد أكثر بكثير من التفكير بأن «الذين مثلي كُثر»، لماذا؟ لأن كلمة «متوسط» عادة ما تحمل لدينا دلالات سلبية، متوسط يعني ليس مميزا، ومن منا لا يحب الشعور بالتميز والتفرد؟!. ولهذا عند مقارنة أنفسنا بالآخرين، ننظر إلى سماتنا الإيجابية على أنها أكثر أهمية، أو أعلى من مستوى سمات الآخرين، وهذا يعني أننا بذلك نبالغ في تقدير قدراتنا، أو خصائصنا بالنسبة لقدرات وخصائص الآخرين. قد يسأل البعض: أين المشكلة في أن نقوم بذلك كي نشعر بارتياح تجاه أنفسنا؟. المشكلة ليست هنا، بل عندما نبالغ في تقدير مدى قدراتنا، وبذلك نبالغ في تقدير فرصنا في النجاح، وعليه قد نتخذ خطوات أو قرارات غير مدروسة، هي أقرب للمغامرة والمخاطرة. المطلوب هنا هو الواقعية في تقييم فرص النجاح ودراسة وتقييم الذات من حيث القدرات والمهارات بصدق وشفافية، وهذا لا يعني عدم المغامرة والمخاطرة، ولكن كل شيء بحساب وخطوات مدروسة.
نقطة هامة يجب التنويه بها هنا، ألا وهي الاعتقاد الخاطئ بأن هناك العديد من الأشخاص الآخرين، أفضل وأعلى مستوى منا، فهذا الاعتقاد أيضا يشكل خطرا على المحاولة والاستمرار، وبذل الجهد للارتقاء، هل أنت أفضل من المتوسط؟ هل أنت أقل من المتوسط؟. قد تكون الإجابة بنعم على السؤالين، فالفرصة متساوية أمامك بأن تكون أفضل أو أقل، المهم هنا ألا تبالغ في تقدير قدراتك أو تبالغ في التقليل من قدراتك، وألا تتوقف عن الشك والتساؤل، وإعادة التقييم الذاتي، وكن صادقا وواقعيا، أي كل شيء يجب أن يبنى على معلومات وخبرات ونتائج فعلية، وداوم على المراجعة الذاتية، لتستمر في تطوير قدراتك ومهاراتك، فالتوقف عن ذلك يعني التراجع، فحتى إن وصلت للقمة بنظرك، فلكل مستوى هنالك مستوى أعلى ولكل قمة هنالك قمة أعلى، فخداع الذات بــ: «أنا أقل من الآخرين» قد يؤدي إلى عدم التقدم وخذلان الذات، وخداع الذات بـــ: «أنا أفضل من الآخرين» قد يؤدي إلى التراجع أو السقوط، والخيار بالنهاية خيارك!.