أثار انتباهي مقال نشر، الخميس الماضي، في صحيفة الوطن، بعنوان «السلفية والإبداع» للزميل العزيز محمد السعيدي، يتحدث فيه عن جانب الإبداع في المنهج السلفي ويقول: «والمنهج السلفي بالدرجة الأولى منهج اتباع وتلق شرعيين، ولذا فهو مسؤول بالدرجة الأولى عن الابتكار في طرائق حمل الشريعة ونقلها». وأخذ الكاتب يعدد بعض المنجزات العلمية للسلف بصفتها منجزات للمنهج السلفي. وهنا جانب الإشكال في المقال، لأن منجزات السلف ليست بالضرورة أن تجير للمنهج السلفي نفسه. لأن إنجازات المنهج السلفي يعنى بها بالدرجة الأولى الخلف وليس السلف.

في ظني أن هناك كثيراً من اللبس في فهم حقيقة المنهج السلفي، ينبع من كوننا نبتعد كثيرا عن جوهر هذا المنهج، الذي يعتبر بالدرجة الأولى منهجا لغويا، وما عداه فهو تشعب لجانب مهم في المنهج السلفي وهو الجانب اللغوي. هذا الجانب هو ما منح السلف الصالح الأهمية بالدرجة الأولى. يقول محمد السعيدي في برنامج الليوان مع المذيع عبدالله المديفر لتوضيح الفكرة التي تقوم عليها السلفية: «الاعتماد على النص بشكل أكبر، وفهمه بالطريقة التي فهم بها السلف الصالح من الصحابة والتابعين تلك النصوص». ويضيف السعيدي في اللقاء التلفزيوني نفسه موضحا من هم السلف بقوله: «السلف هم الذين يفهمون اللغة العربية غضة كما أنزل الله، سبحانه، بها القرآن الكريم، وهم جيل الصحابة ومن فهم اللغة وفقهم من جيل التابعين».

السلفية كما ذكرنا منهج يقوم أساسا على اللغة، وتحديدا على لغة الظاهر أو الجانب الإنساني من اللغة، اللغة المشتركة التي يستخدمها الناس العاديون في شعرهم وأدبهم. واللغة العربية الغضة التي يقصدها السعيدي هي اللغة العربية في عصر نزول الوحي قبل أن تتعرض لعوامل التطور المختلفة، وبناء على ذلك فالمنهج السلفي يتمحور حول فهم النصوص المقدسة قبل حدوث التطور اللغوي الذي سيؤدي بطبيعة الحال لسوء فهم دلالات وتشريعات هذه النصوص. فالعودة لعصر السلف تعني العودة للغة العربية قبل حدوث أي تطور.

يوضح الشافعي في كتابه الرائد في مجال الفقه الإسلامي «الرسالة» أهمية اللغة العربية في فهم نصوص القرآن الكريم، ويقول شارحا معنى المعاني المجتمعة المتشعبة في النص القرآني: «إنها بيان لمن خوطب بها ممن نزل القرآن بلسانه، متقاربة، الاستواء عنده، وإن كان بعضها تأكيد بيان من بعض ومختلفة عند من يجهل لسان العرب». وكلام الشافعي هنا تأكيد صريح لأهمية اللسان العربي في فهم النصوص المقدسة. ومن هنا نستطيع القول إن المنهج السلفي يبدع ويجدد نفسه من خلال مقاومة التطور اللغوي في اللسان العربي عبر العصور. من خلال دراسة ظواهر التبدل والتشكل المطرد الذي يطرأ على مختلف عناصر اللغة من أصوات وقواعد ومتن ودلالة، تؤثر في فهمنا لجوهر النص وحقيقة التشريع، من خلال وضع موازنة بين لغتي السلف والخلف، وكيف فهم السلف النص لغويا ومقارنته مع فهمنا اللغوي الحديث لذاك النص. فالتجديد في المنهج السلفي يقوم على وجود قناعتين تؤكدان على أن الوحي الإلهي ثابت لا يخضع للتطور والتغير، في حين أن اللغة البشرية دائمة التطور والتشكل في كل عنصر من عناصرها، وعرضة للتفاعل الثقافي مع لغات الشعوب المجاورة. لذا فإن العودة لعصر السلف هي عودة لغوية في المقام الأول.

وفي المسائل المتعلقة «بالأسماء والصفات» يكتسب المنهج السلفي مزيدا من الإقناع ومزيدا من التأثير، كون العقل البشري يقف عاجزا عن إدراك حقائقها الغيبية لا سيما أنها تناقش مسائل فوق مستوى العقول والمقاييس، ومن هنا تكتسب دعوى السلفية بالعودة إلى النص والعودة إلى فهم السلف المزيد من الحجية والإقناع. يقول الله تعالى: «ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها»، والدعاء بأسماء الله يتطلب معرفتها والوقوف على حدودها. قال أبو الحسن القابسي: «أسماء الله، تعالى، وصفاته لا تعلم إلا بالتوقيف، والتوقيف كتاب الله وسنة رسوله، واتفاق أمته، وليس للقياس في ذلك مدخل، وما أجمعت عليه الأمة فإنهم عن سمع علموه من بيان رسول الله».

فمن خلال النصوص ومعالجتها لغويا، تجدد وتبدع السلفية بصفتها منهج لغوي لا غير، ومن خلال المعالجة اللغوية للنصوص المقدسة استطاع المنهج السلفي أن يفرض نفسه ويطرح حججه تجاه خصومه الفكريين ويقدم نفسه في أي عصر وأي زمان ومكان. وفي كتابه «المشروع النهضوي العربي» يقول المفكر محمد عابد الجابري: «وفي مجال تجديد الدين انطلاقا من نصوصه، وما يرتبط بذلك من إصلاح أساليب التعبير العربية وممارسة (التجديد) في اللغة بقطع وإزالة ما تراكم فيها من مظاهر التخشب والجمود، في هذا المجال حققت السلفية كذلك نجاحا إذ أعادت للعقل اعتباره وللاجتهاد مكانته وعبرت عن قضايا الدين والدنيا بلغة مبسطة خالية من التعقيدات اللفظية والأسلوبية مما جعلها تقترب من أفهام عموم الناس».