كان الفضل في عزمي على السفر لحضور هذا المؤتمر يرجع لأستاذنا الدكتور علي جواد الطاهر، فقد كتب إلي محبذاً ومرغباً، وأتبع ذلك بأن اتصل بالمشرفين على إقامته فوجهوا إلي الدعوة للحضور، وجاءني كتاب من الأستاذ شارل بلا- رئيس قسم الدراسات الاسلامية في جامعة باريس- من دون سابق معرفة عن رؤية أو مكاتبة يقول فيه: «لأن أكبر فائدة المؤتمرات ليست إلقاء الأحاديث والاستماع اليها، بل ما يتهيأ للأعضاء من الفرص السانحة لتعارف البعض والمذاكرة والتفاهم وغير ذلك من الفوائد والمنافع؛ فلذلك أرجو منك أن تحضر هذا المؤتمر».

والحق أن جل ما يستفيده المرء من حضور المؤتمرات هو التعارف– كما ذكر الأستاذ– وقد سبق أن دعيت إلى المهرجان الذي أقيم في مدينة بغداد بمناسبة مرور ألف عام على إنشائها، وعلى مرور ألف عام على وفاة الكندي وكان ذلك في عهد الزعيم قاسم أمين، وكانت المدة المقررة لإقامة المهرجان– كما دعوه– أحد عشر يوماً، ولكنني لم أطق إكمالها، ولما طلبت من المشرفين على تنظيمه تهيئة وسائل عودتي اتصل بي وزير الثقافة مبدياً رغبته في بقائي حتى انتهاء أيام المهرجان، ولما أظهرت له أنني لم أتمكن من مقابلة من كنت عرفته من العلماء والباحثين من أهل العراق. سألني عمن لم أره منهم قائلاً: إن المهرجان قد ضم العلماء و الشعراء، فكان ممن ذكرت الشيخ محمد رضا الشبيبي، فقال: إنه مريض لا يخرج من بيته، فأخبرته بأنه ليس مريضاً، وقد كرم فزارني في الفندق ثم ذكرت له الأستاذ عباس العزاوي، فزعم أنه خارج العراق للعلاج، ولكنني أكدت له بأنه في بغداد، وأني زرته في بيته، وذكرت اسم الدكتور جواد علي فقال: إنه في لندن يلقي محاضرات في إحدى جامعاتها، غير أنني أخبرته أنه يقيم في بغداد، وسميت له الفندق الذي كان يسكنه تلك الأيام، فما كان منه إلا أن قال لي: أرجو أن ترى عندما تأتي إلى بغداد مرة أخرى جميع من تحب رؤيتهم. ومع أن ذلك الوزير كان عسكرياً إلا أنه كان لطيفاً حقاً وفي غاية الرقة المحمودة والتواضع، وهو الأستاذ إسماعيل العارف

لقد تم العزم على السفر لحضور المؤتمر، وبدأت في الاستعداد لذلك وكنت أسمع عن كثرة المسافرين إلى باريس فخشيت أن يحدث لي فيها مثل ما حدث لي حينما وصلت إلى لندن في شهر أكتوبر سنة 1960، ذلك أنني عندما أردت السفر اليها من هولندا قال لي أحد معارفي: يحسن الاتصال في لندن بمن يحجز لك مكاناً تسكنه، فلم أصغ إلى قوله وأجبته: مدينة تتسع لما يقارب ثمانية ملايين من البشر لن تضيق بي. وكان أن سافرت إليها فبلغتها حوالي الساعة العاشرة ليلاً. فركبت من مقر شركة الخطوط الجوية الهولندية في إحدى سيارات الأجرة. وقلت لسائقها: «هوتيل»، وهي ما أحسن من الكلمات الإنجليزية التي ينبغي أن أخاطبه بها، فاغتنمها فرصة. فصار يدور بي حول الفنادق الكبيرة التي تزدحم عادة بالسكان، حول حديقة لندن الكبيرة «هايدبرك» ولكن الوقت طال، حتى أتقنت منه قوله: «نو روم. كمبليت» والظاهر أنه أحس أيضاً بشيء من الضيق المشوب بالاستغراب من هذا الراكب الذي لم يبد أي تذمر من طول السير، فكان يلتفت إلي ويمطرني بوابل من الكلمات التي لا أفهم منها سوى ما ذكرته، ويقف أحياناً كأنه يرغب مني النزول، ولكنني كنت أثناء ذلك أكرر قوله (نو روم) ثم أتبع ذلك بإشارة تدل على النوم في سيارته. فيقهقه ضاحكاً ويستمر في سيره.

كنت رغبت من صغري بناتي أن تسافر معي، ورأيت ضرورة تهيئة مسكن في باريس، فكان أن اتصلت بمكتب (كوك) الذي تولى مستلزمات السفر، ومنها اختيار السكن، وكان اختياراً موفقاً في فندق يدعى Hotel De L›abbaye في شارع سان جرمان في قلب المدينة في الحي اللاتيني، بقرب (السوربون) حيث يقام المؤتمر.

من بيروت إلى باريس: كان السفر في يوم السبت 14 جمادي الآخرة سنة 1393 (12 يوليو سنة 1973) في إحدى طائرات الشرق الأوسط، المسافة تبلغ 3388 كيلاً قطعتها الطائرة في أربع ساعات ونصف، إذ أقلعت من مطار بيروت الساعة الواحدة إلا ربعاً ظهراً، وحطت في مطار باريس في الساعة الخامسة والربع (أي الثالثة والربع بحسب توقيت باريس ).

لم أر في مطار من المطارات التي مررت بها معاملة أسهل مما رأيته في هذا المطار، فقد كان المرور بدائرتي الصحة والجوازات لا يستغرق من الوقت أكثر مما يستلزم ختم الجوازات والنظر فيها للتحقق من سمة الدخول وإجراء التطعيم ثم الخروج إلى الساحة التي تبرز فيها الحقائب، فيناول كل مسافر حقيبته ويخرج بها من باب وقف فيه موظف يكتفي بنظرة عابرة يلقيها على المسافر وهو يحمل حقيبته أو يجرها، كما فعلت، فقد أحضرت معي لفافة ثقيلة تحوي عدداً من الكتب التي طبعتها لأقدمها لبعض من أعرف، وما كنت أعتقد أنني أجد أي مطار من مطارات العالم خالياً من الحمالين كما رأيت في هذا المطار. لقد حملت ابنتي حقيبتها، وسرت خلفها أجر تلك اللفافة على الأرض وهي من ورق، والمطر يهطل بغزارة، وسرعان ما وقف بجواري شاب وقال: أتريد أن أساعدك؟ ثم تناول طرف ما أجر حتى أوصلني إلى سيارة أجرة تسوقها سيدة، أبلغتنا مكاننا الذي نقصد، ونقدناها ما طلبت من أجرة بلغت 33 فرنكاً ولم يكن أحدنا بحالة تمكنه من النظر إلى مسجل الأجرة (العداد) ليتحقق من صحة ما طلبت، مع ملاحظة أن الحقائب لها أجرة وأن السائق لا يكتفي بالأجرة المسجلة، ومهما يكن فقد دفعنا ذلك مرتاحين، ولو طلبت أكثر لما ترددنا في دفعه، فقد كنا في حالة لا تمكننا من المعاكسة، وهي لا تفيد في مثل هذه الحالة.

1974*

* أديب وباحث سعودي " 1910- 2000"