أواصل اليوم قراءة ما تجود به قدراتي المعرفية في ما ورد في الرؤية الإصلاحية لسمو ولي العهد، وتحديدًا ما يتصل منها بالأحكام الشرعية، ومصادر الاستدلال، التي ستضطلع الحكومة بمراعاتها، وتطبيقها، اعتمادًا على موضوع التطبيق نفسه من جهة، ومراعاة مقاصد الشريعة من جهة أخرى.

قال سموه أثناء الحوار: «نحن كحكومة، أو مجلس الشورى كمشرّع، أو الملك كمرجع للسلطات الثلاث، ملزمون بتطبيق القرآن بشكل أو بآخر؛ لكن في الشأن الاجتماعي والشأن الشخصي، نحن فقط ملزمون بتطبيق النصوص الواردة في القرآن بشكل واضح». وأضاف: «لا يجب أن أطرح عقوبة شرعية بدون نص قرآني واضح، أو نص صريح من السُنّة. وعندما أتكلم على نص صريح من السُنّة، فأغلب مدوّني الحديث صنّفوا الحديث بناءً على أسلوبهم الخاص، مثل البخاري ومسلم وغيره، بين حديث صحيح، أو حسن، أو ضعيف؛ ولكن هناك تصنيفاً آخر وهو الأهم، مثل الحديث المتواتر والآحاد والخبر، وهو المرجع الرئيسي في استنتاج الأحكام واستنباطها من الناحية الشرعية». وشدد سموه على أن «لا عقوبة على شأن ديني إلا بنص قرآني واضح، وتُطّبق هذه العقوبة بناءً على كيف طبقها رسول الله»؛ ومثّل سموه لذلك بـ «الزاني غير المحصن يُجلد، الزاني المحصن يُقتل، وهذا نص واضح».

وذلك يعني، حسب ما فهمت، أنه لن تطبق عقوبة شرعية، أو لنقل: عقوبة على مخالفة دينية، إلا بنص صريح من القرآن، ووفقًا للكيفية التي طبقها بها النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك لعمري مما مع يتفق مع مقاصد الشريعة التي جعلت المحافظة على حياة الإنسان، وحرمة جسده من أن يُعرَّض لعقوبات بدنية، بدون نص مقطوع به، ثبوتًا ودلالة، أمرًا مقطوعًا به. قال تعالى: «من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا». كما حرّمت السنة بأدلة صريحة مقطوع بها، التعرض بسوء لحياة الإنسان، وعرضه، وماله، وسمعته، كقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».

وهكذا، إذا كانت حياة الإنسان وسلامته مُصانة بقطعيات الشريعة، فمن الافتئات على الشريعة ذاتها أن يُعرَّض الإنسان لعقوبات شرعية، اعتمادا على أخبار آحاد لا تفيد إلا الظن. فإذا كانت أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في مجال العقائد، لأنها، أي العقائد، مبنية على القطع، فمن باب أولى ألا تطبق عقوبات على المخالفات الدينية إلا بنصوص مقطوع بها؛ لأن النصوص التي تفيد الظن فقط، لا يجوز أن تكون حاكمة على النصوص المقطوع بها. والقطع المقصود هنا هو القطع بالدلالة والثبوت معاً. إذ لا يكفي أن يكون النص مقطوعًا بثبوته فحسب، بل يجب أن يكون مقطوعًا بدلالته أيضًا. وبالمثل، لا يكفي أن يكون النص مقطوعًا بدلالته، طالما كان ثبوته ظنيًّا. والحديث هنا عن العقوبات التي ستطبق على مخالفات دينية؛ أما العقوبات التي ستطبق على مخالفات اجتماعية بحتة، فهي داخلة في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم». بمعنى أن تنظم عقوباتها بما تسنه الدولة من قوانين وأنظمة، لا تصطدم مع نص شرعي مقطوع به ثبوتًا ودلالة.

والسؤال هنا: هل يؤخذ بالحديث المتواتر على نحو مطلق؟

والجواب، كما جاء في حديث سمو ولي العهد، أن الأحاديث المتواترة، بحكم أنها «قليلة للغاية، لكن ثباتها قوي جدًا»، فإن «تفسيرها يخضع لاجتهاد، حسب الظرف والمكان؛ وحسب كيف فُهِمَ هذا الحديث». بمعنى أن الحديث المتواتر، إذ هو مقطوع بثبوته، أي بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن دلالته على الحالة، أو النازلة المراد إنزاله حكمها عليه، قد لا يكون مقطوعًا به؛ فيكون عندها قطعي الثبوت، ظني الدلالة؛ ومن ثم يغدو إعماله رهنًا بالظروف المتغيرة، والسياقات الزمانية والمكانية المتعاقبة.

وماذا في شأن حديث الآحاد صحيح الإسناد؟

حديث الآحاد، في حالة صحة سنده، حسب شروط المحدثين وأهل الجرح والتعديل، على ما بينهم من اختلافات في هذا المجال، يظل ظني الثبوت، ومن ثم فحكمه ظني أيضًا. وهذا لا يعني إهمال إعماله، إذا كان ثمة شروط ملائمة لذلك. وقد جاء في حديث سمو ولي العهد ما يؤكد ذلك من خلال قوله:«وهذا الحديث، (= حديث الآحاد)، غير ملزم بإلزامية الحديث المتواتر، إلا إذا اقترن بنصوص شرعية واضحة، وبمصلحة دنيوية واضحة؛ خاصة إذا كان حديث آحاد صحيحًا، وهذا يشكل أيضًا جزءًا قليلاً من أحاديث الرسول». ولاحظ كيف اشترط سموه، بفهم واطلاع عالم الحديث المتمكن، أن يكون حديث الآحاد الذي سيؤخذ به صحيحا من حيث السند؛ أما إذا كان ضعيفًا، أو حتى حسنًا، فلا يؤخذ به، على الأقل في مجال الأحكام التي تمد بسبب إلى مصالح معاملاتية أو عبادية، يشكل الأخذ بحديث الآحاد، تضييقَ واسع، أو تقييد مطلق، أو منع مباح.