على مدى امتداد الوطن العربي من أقصى الماء شرقاً إلى أقصاه غرباً تنتشر مقولة «اربطيه بالعيال» إن لم تكن بالحرف فبالمعنى، مؤكدة في تكرار متواصل أن الخيوط الهشة لعلاقة الزوجين يمكن ترميمها بإنجاب الأطفال وكثرتهم، ومركزة على أن وجود الأبناء يوفر مبررات إضافية لاستمرار هذه العلاقة بدل تصدعها السريع.

ومع تواتر هذه المقولة عبر سنين كثيرة، فإن زيادة الوعي اليوم، يضعها على المحك، حيث يشدد معنيون على أنها فرغت من جدواها، وأن جيوش الأطفال الذين يملأون الشوارع ويحتشدون بها لم يمنعوا تصدع العلاقات ولا وصولها إلى طرق مسدودة يفصهم عراها بالطلاق، ويجعل مصير هؤلاء الأطفال مرهونا للضياع.

انتهاك لإنسانية الطفل

ترى المعالجة الأسرية رنا باناجة أن إنجاب الأبناء فقط بغرض حل مشاكل الزوجين وتوطيد العلاقة بينهما، أو تقريب الزوج للزوجة، أو ما يشار إليه بقول «اربطيه بالعيال» بغرض إصلاح العلاقة بين الزوجين وحل مشكلاتهما فحسب فيه انتهاك لإنسانية الطفل، حيث يجعل هذا المفهوم الطفل وكأنه «غرض أو شيء ما» جاء لأداء مهمة، وتقول «من المفترض أن يتحمل الزوجان مسؤولية العمل على إصلاح علاقتهما بدلا من تحميل تلك المسوؤلية إلى طفل لا حول له أو قوة، فتخرج بذلك مسألة إنجاب الأبناء من إطارها الرئيس، ومن محتواها الذي يفترض أن يأخذ فيها الطفل الحب والحنان والأمان بكافة الوسائل التي تسهم في تربيته وصقل شخصيته وتكوينه».

رغبة الطرفين

تشدد باناجة، على أن طرح النصائح على الغير قد لا يكون ملائما في كثير من الأحيان، وقالت «الإنسان هو الخبير بحياته، وهو الذي يعيش هذه الحياة بأدق تفاصيلها، خاصة النصائح التي تتعلق بإنجاب الأبناء من حيث العدد أو الوقت المناسب، فالمسألة خاضعة لمدى رغبة الطرفين واستعدادهما من كل النواحي لتحمل مسؤولية إنجاب أبناء وتربيتهم بشكل صحيح».

وتكمل «الأطفال أشخاص مستقلون لهم حقوق كبيرة لا يمكن إهمالها، وما دام أن الزوجين أخذا قرار إنجاب هؤلاء الأبناء فلابد أن يتحملا نتيجة قرارهما، ويكونا واعين لحجم وعظم هذه المسؤولية التي ينبغي أن تؤدى بكل حب وحنان، وأن يكون الطفل في بيئة آمنة على كافة الأصعدة».

توقعات خاطئة

تشير باناجه إلى أنه في حال إنجاب الأبناء وعدم إسهام ذلك في تحسين وإنجاح العلاقة بين الزوجين فإن من يتحمل الفاتورة هنا ليس فقط الزوجان، وإنما كذلك الأطفال الذين يتحملون العبء الأكبر لأنهم جاءوا إلى العالم محمّلين بدور أكبر من المطلوب منهم، وهو أداء مهمة تحسين علاقة الوالدين.

وتابعت «إنجاب الأبناء مسؤولية كبيرة وصعبة، ولذلك من المفترض أن يعمل الزوجان على تقوية علاقتهما وتحسينها قبل التفكير في الإنجاب، بدلا من أن ينجبا بغية التحسين وتحميل الطفل الصغير ما لا طاقة له، والإنجاب دون العمل على العلاقة أو أخذ مسؤولية التحسين بدل إسقاطها على الطفل ممكن أن يزيد البعد بين الزوجين، حيث إن مسألة التربية أمر كبير قد يأخذ كثيرا من الوقت والجهد، بالتالي قد يزيد النفور بين الزوجين البعيدين عن بعضهما بعضا».

وتكمل «لا توجد مشكلة في إنجاب الأبناء ما دام هناك توافق بين الزوجين ووعي بمسؤولياتهما في التربية بكل جوانبها، وما دام الإنجاب بهدف تكوين عائلة مستقرة».

مفهوم مغلوط

ترى المحامية، المستشارة الاجتماعية رباب أحمد المعبي، وهي باحثة دكتوراه أنظمة أن «مفهوم اربطيه بالعيال الذي يطرح لإقناع المرأة بأن كثرة إنجاب الأطفال هو ضمانة الزوجة لإبقاء الزوج إلى جانبها، وعدم التفكير بغيرها، هو مفهوم قديم وغير صحيح، تم الترويج إليه على أنه أفضل طريقة للحفاظ على المنزل، ولا ينطبق على العصر الحديث، حيث تتطور الحياة وتتحدث الأنظمة، وتندثر بعض العادات والتقاليد القابلة للتحول بتحول المجتمعات».

وتضيف «اعتبار الأولاد العنصر الأساس لبقاء الحياة الزوجية مفهوم مغلوط، فالإنسان قد يشقَى بولده، ووجود الأولاد قد لا يمنع من الطلاق، بل قد يكون أحيانا دافعا للطلاق لعدم القدرة على الالتزام بتوفير الاحتياجات الحياتية، وهذا سبب جديد للشقاق والخلاف، والحاجة إلى المال أمسُّ من الحاجة إلى البنين في الغالب، بخلاف البنين الذين قد لا يكونون زينة إلا بوجود المال، فإن من له بنون ولا مال له فإنه في أضيق حال ونكال، وحين نمعن النظر في الواقع نجد ارتفاع نسب الطلاق، ومن ضمن الأسباب ضيق العيش أو عدم النفقة على الزوجة أو الأبناء».

موروثات اجتماعية

توضح المعبي أن «المجتمع السعودي يتأثر بالواقع الاجتماعي، وهو مجتمع متطور ومثقف وقادر على فرز الثقافات الأصيلة والموروثات، وقادر على تأصيل المفاهيم المتوافقة ورفض المفاهيم التي تتعارض مع متطلبات العصر الحالي».

وتكمل «الخوف من المستقبل، يدفع كثيرا من النساء إلى الاستماع للنصائح بكثرة الإنجاب، وأن الأولاد هم السند، وهو مفهوم لا يمكن أن ينطبق على العصر الحالي، حيث ارتفعت تكاليف الحياة المادية وازدادت المتطلبات الحياتية التي تعد العامل المؤثر لانهيار الحياة الزوجية، وارتفاع نسب الطلاق، مما يوجب على أفراد المجتمع إعادة التفكير وتحديث المفاهيم الحياتية، حيث انقرضت عدد من الأعراف القابلة للتحول، وعند التأمل في كتاب الله، عز وجل، نجد أنه قدَّم المال على البنين في عدد من الآيات لعموم زينه المال بالنسبة لكل الأفراد والأوقات بخلاف البنين، وفي ذلك حكمة الله، عز وجل، في تدبير الأمور، قال تعالى (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) سورة الكهف 46، (وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) الإسراء 6، (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونَ) الشعراء 88، (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ) الشعراء 133، (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) القلم 14، (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) نوح 12، (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا) المدثر 12، ولست في مجال لتفسير الآيات، ولكن استعرض الرأي لبيان حقيقة المال والولد بأنهما زينة الحياة الدنيا، وحيث يعد المال عصب الحياة، والرجل يحتاج إلى المال ليتمكن من الزواج ومن ثم النفقة على الزوجة والأبناء حتى تستقر الحياة وتكوين أسرة سعيدة، حيث المال قوة وأمان للأسرة، وبالمال تقدّم المجتمعات من حيث مستوى المعيشة للزوجين والأبناء، لذلك على الأسرة السعي لتحقيق الاستقرار المالي لتكوين أسرة مستقرة تواجه صعوبات الحياة».

العقد الغليظ

ردا على تساؤل حول ما إن كانت كثرة الأبناء -من الناحية الاجتماعية- تعطي انطباعا بأن الزواج ناجح، بغض النظر عما يدور خلف الجدران المغلقة، تقول المعبي «على الإطلاق، هذا أمر خاطئ، ويتعارض مع مجريات ومتطلبات الحياة الحديثة، والزواج الناجح هو عقد غليظ، وهو مثل أي مشروع يجب أن يبنى على أسس سليمة وأهداف مستقيمة وواضحة، ومنها التوافق الفكري والثقافي والاستقرار المالي، ومن ثم التعاون لتذليل الصعوبات الحياتية لتحقيق أمان المستقبل واستمرارية الحياة بدون منغصات».

وحول ما إن كانت الزوجة أو الأبناء هم الخاسرون مما يحصل في أروقة المحاكم من منازعات وخلافات نتيجة مفهوم «اربطيه بالعيال»، تقول المعبي «من المبررات للجوء إلى التقاضي وارتفاع نسب الطلاق، عدم التقصي والسؤال عن الخاطب والاكتفاء بأنه مليء (الرجل لا يعيبه إلا جيبه)؛ أي أنه مهما بدر من الرجل من سلوك سواء أكان إيجابياً أو سلبياً فلن يعيبه وليس للزوجة أي اعتراض، وبذلك اختزل معايير الزوج المثالي بالمال فقط، وهو مفهوم غير صحيح، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض»، فحسن العشرة والتوافق الفكري بين الزوجين عامل مؤثر، إلى جانب أهمية دراسة الصفات الشخصية والقناعات والأهداف المستقبلية بين الطرفين، لمنع التصادم الفكري ونشوء الخلافات المؤدية لطرق باب القضاء.

أما (مفهوم لما يصير أب يعقل، وبنت الرجال تصبر)، فهو مفهوم مغلوط حيث لم يحدد مدى وسعة الصبر، وما هي الأمور التي يجب صبر الزوجة عليها، وما هي الأمور التي يجب الإفصاح عنها قبل أن تقع الواقعة بإنجاب أبناء وتكون النتائج وخيمة، مما يؤدي الى صمت الزوجة عن المطالبة بحقوقها التي كفلتها الشريعة الإسلامية والأنظمة، والصحيح بنت الرجال تكرم وتصان قبل وبعد الإنجاب، وحيث توجد طرق عديدة للإصلاح ومحاولة تذليل الخلاف من خلال اللجوء الى المصلحين المعتمدين ومستشاري الأسرة أو اللجوء إلى منصة تراضي عند وجود خلاف وقبل الإنجاب لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومن ثم يكون القضاء آخر الأبواب طرقاً.

الزواج ليس مجرد اجتماع شخصين، ولكن التقاء عقول وفكر يتعاضدان لإنجاح الحياة الزوجية، فالزواج يحقق المودة والرحمة والسكنى والأمان والاستقرار، بل هو مشروع إنساني وينشئ عنه مشاريع صغيرة وهم الأبناء، والزواج عقد تنطبق عليه صفات المشاريع، لذلك يجب إجراء دراسة جدوى مبسطة عن الصفات الشخصية للطرفين الراغبين بإنشاء مشروع تكوين أسرة جديدة، وتقدير مدى التوافق الفكري والعقلي والطموح المستقبلي قبل إنجاب الأبناء.

وقد انفرد عقد الزواج من بين سائر العقود بالخطبة تمهيدا يسبق العقد، وذلك لأن عقد الزواج من أكثر العقود خطرا على الإطلاق لما فيه من نتائج مؤثرة عند الانفصال في حال وجود أبناء، لذلك أهمية التريث من قبل أسرة كليهما لاكتشاف ما يمكن اكتشافه من المحاسن المشجعة على إتمام الزواج، أو المساوئ المنفرة من إتمامه، لذلك اهتمت الشريعة الإسلامية بأمر الخطبة التي تعد مجهرا على الطرفين ومقياسا لمدى التوافق والملاءمة بين مشاربهما وطباعهما في حياتهما المستقبلية ومن ثم إنجاب الأبناء».

ليست حلا

وضحت رئيس مجلس إدارة جمعية حماية الأسرة الدكتورة سميرة الغامدي أن مسألة «اربطيه بالعيال» لم تكن يوما حلا، وقالت «حتى لو أنجب الزوجان 20 طفلا بغرض الإصلاح، فقد يحدث الطلاق، وحينها سيكون الأطفال ضحية».

وقالت الغامدي إن «هذه مبدأ أثبت عدم نجاعته، وحتى الزوجة التي تعتقد أن الزوج قد يتحمل المسؤولية، وكما يقال بالعامية -ينصلح حاله- عليها أن تدرك أن هذا أمر مستحيل، فالشخص إذا كان لديه اضطراب فلن يتغيّر لأي سبب مثل سبب إنجاب الأطفال».

مقتضى المفهوم

مقولة «اربطيه بالعيال»، هي مقولة تتكرر كثيرا، وتقدم للزوجة كنصيحة للاحتفاظ بزوجها عبر إنجاب الأطفال على أنه يعزز روابط العلاقة مع زوجها، ويوفر لها مزيدا من عوامل الاستقرار.

سلبيات للمقولة

ـ تحمل الأطفال مسؤولية إصلاح الزواج وهذا ليس دورهم.

ـ تفرض على الطفل عبئا لا إنسانيا.

ـ تجعل الأطفال عرضة لمواجهة حياة في بيت غير مستقر أساسا.

ـ تزيد الأعباء المالية الملقاة على كاهل الأسرة نتيجة كثرة الأطفال.

ـ كثرة الأطفال ليست انعكاسا لنجاح الأسرة واستقرارها.