قمة دول الجوار. القمة الإقليمية. قمة التعاون والشراكة. تعددت الأسماء، لكن قمة بغداد شكلت حدثاً سيكون له ما بعده. ليس فقط عبر لجنة متابعة من وزارات الخارجية واجتماعات دورية «لمناقشة المشروعات الاستراتيجية الاقتصادية والاستثمارية التي عرضها العراق»، بل لأن القمة بدت ذات مهمة وهدف أبعد من مجرد دعم العراق وحكومته، وتبدو كأنها زرعت نواة تجمع إقليمي (- دولي) يراد له أن يدوم ويتطور ليقوم بوظائف عدة: خفض التوترات، معالجة الصراعات، تعاون أمني واقتصادي... أي كل ما عبر عنه البيان الختامي سواء بالوصول إلى «المشتركات مع المحيطين الإقليمي والدولي في سبيل تعزيز الشـراكات السياسية والاقتصادية والأمنية»، أو «تبني الحوار البناء وترسيخ التفاهمات على أساس المصالح المشتركة»... هذا ما بدا تعريفاً عاماً للأهداف المتفق عليها، أما المفاهيم فسيجري اختبارها في تجربة العراق. وهنا تفترق إيران عن الجميع.

أكثر ما أوحت به خطوة مصطفى الكاظمي أن الشأن الداخلي لم يعد كذلك، بل أصبح مرتبطاً بالجوار ثم غدا إقليمياً وانتهى دولياً. لا ينطبق ذلك على الوضع الذي آل إليه العراق فحسب، بل ينسحب أيضاً على سوريا ولبنان واليمن وليبيا حيث تلعب «تدخلات متنوعة»، وفقاً لتعبير الرئيس المصري، أدواراً شتى في عدم استقرار المنطقة. وفي الإجمال كانت الإشارات إلى التدخلات خفيفة لئلا يصبح المؤتمر مستفزاً لإيران أو حتى لتركيا. ولم يكن الحضور الفرنسي شكلياً أو بروتوكولياً، أو مرتبطاً بدور خاص لعبه أيمانويل ماكرون في بلورة فكرة المؤتمر، فالفكرة مطروحة منذ البحث عن حل للصراع العربي – الإسرائيلي، وأعيد طرحها بعد اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية ثم تحولها صراعاً عربياً - إيرانياً لا يزال في ذروة سخونته، لكنها لم توضع عملياً على محمل الجد والتطبيق، برغم وجود دراسات واقتراحات كثيرة راجت خلال تسعينيات القرن الماضي لإنشاء هيئة إقليمية على غرار «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» التي اهتمت بتأمين اندماج بلدان أوروبا الشرقية.

كانت هناك درجة كبيرة من التناغم بين قادة وممثلي الدول المدعوة، سواء في عرض المبادئ والأهداف المتوخاة وأهمها توحيد الجهود الإقليمية لاستعادة الاستقرار في المنطقة، أو خصوصاً «دعم الحكومة العراقية في تعزيز مؤسسات الدولة وفقا للآليات الدستورية وإجراء الانتخابات النيابية». الوحيد الذي شذ على هذا المناخ الدبلوماسي الهادئ كان وزير الخارجية الإيراني أمير حسين عبداللهيان، إذ دشن ظهوره الخارجي الأول بخطاب يؤكد ارتباطه بـ«الحرس الثوري» ويعزز اندفاع طهران نحو نهج متشدد. لكنه توج سلوكه بخرق بروتوكول الصورة الجماعية ليكون الوزير الوحيد الواقف في صف زعماء الدول.

لم تكن إيران مرحبة ولا مرتاحة إلى دعوة الكاظمي إلى هذا المؤتمر «من دون التشاور المسبق معها»، وذكرت مصادر أنها لمحت إلى مقاطعته بحجة أن الرئيس إبراهيم رئيسي ليس جاهزاً بعد لزيارات خارجية، ما استوجب إيفاد وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين إلى طهران لإقناعها بعدم التغيب. لكن عبداللهيان، المعروف بتعصبه وغطرسته، استخدم كل مؤهلاته لتكون مداخلته معبرة عن تمسك إيران بهيمنتها ودورها في العراق، مروراً بالانفراد بمطالبة الولايات المتحدة بالانسحاب من المنطقة، كذلك بالاحتجاج على عدم دعوة رئيس النظام السوري إلى المؤتمر. ولم يبد عبداللهيان معنياً بكل ما قيل عن «تحديات مشتركة تقتضـي تعامل دول الإقليم معها على أساس التعاون المشترك والمصالح المتبادلة ووفقا لمبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام السيادة الوطنية». فإيران لا ترى من «التحديات» سوى وقوف أمريكا- المنسحبة تلقائياً- عقبة أمام الاعتراف بنفوذها في البلدان العربية الأربعة التي خربتها. كما أنها تعتمد مفاهيم ميليشياتها لـ«حسن الجوار» و«عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول».

عملياً، أراد عبداللهيان أن يفسد قمة بغداد بخطابه أو بخرقه البروتوكولي الوقح، لكن القادة الآخرين تجاوزوا رعونته للإصرار على أهداف القمة، إذ ثمنوا جهود العراق وتضحياته في حربه على الإرهاب «بمساعدة التحالف الدولي والأشقاء والأصدقاء»، ورحبوا بتطور «قدرات العراق العسكرية والأمنية» على نحو يسهم في تكريس الأمن وتعزيزه في المنطقة، وجددوا «رفضهم كل أنواع الإرهاب والفكر المتطرف». كل من هذه الكلمات ترمي إلى إسماع إيران أن العراق أكبر من أن تهيمن عليه أو تستحوذ على قراره وسيادته، ولا شك أن الدول المشاركة حضرت لتأكيد اهتمامها بالعراق وبالإصلاحات الاقتصادية التي تعتزمها حكومته، بل اعتبرتها «رسائل إيجابية» إلى المجتمع الدولي ومؤسساته الراغبة في المساعدة على إعادة الإعمار وتوفير الخدمات ودعم البنى التحتية كما في التعامل مع ملف النازحين وضمان عودتهم الطوعية إلى مناطقهم «بعد طي صفحة الإرهاب». ولإيران مسؤولية بل مسؤوليات في الإرهاب ودعمه.

بالتأكيد كان احتضان العراق هدفاً للمؤتمر، لكن فشل مهمة عبداللهيان لن يثني إيران عن العمل لإفساد ما بعد المؤتمر وإجهاض أي نتائج عملية له. أساساً لم يكن إطلاق صواريخ على معبر جريشان/ صفوان بين الكويت والعراق، حيث كانت توجد قاعدة أمريكية، مجرد حادث عرضي، بل كان «رسالة» متعمدة من «الحرس» الإيراني عشية القمة وبعد أيام على زيارة الكاظمي للكويت. وهناك اتهامات مكتومة في بغداد لإيران بأنها المحرض الخفي على تدمير أبراج الكهرباء غداة اتفاق في القمة الثلاثية (مصر والعراق والأردن) على تأمين الربط الكهربائي، أما الاتهامات المعلنة فهي لتنظيم «داعش» الذي نفذ لاحقاً هجمات على الأبراج.

لا شك أن الحدث الأمريكي في أفغانستان كان الخلفية النافرة لقمة بغداد، بدءاً بدوافع الدعوة إليها وصولاً إلى التداعيات المحتملة للانسحاب الأميركي المرتقب من العراق. وإذ شدد الرئيس ماكرون على «تدعيم استقرار العراق والمنطقة»، فقد قال إن «استقرار العراق غير ممكن ما لم يقترن باستعدادات في المنطقة»، ما يحتم الجلوس إلى طاولة واحدة لإظهار تلك الاستعدادات. كانت تلك فرصة لإيران كي تقدم رؤية جديدة عن دورها في العراق والعلاقات التي كرر الرئيس رئيسي أنه يريد تحسينها مع دول الجوار. لذلك يبقى العراق مختبراً لقياس سلوك إيران، فهي منشغلة بكيفية ملء الفراغ الأميركي ولذلك لم تظهر في قمة بغداد أي استعداد للحوار في شأن الاستقرار الإقليمي.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»