نحن في عصر لم نُعد نمتلك منه أي شيء فيه إلا الوقت، وذلك في مواجهة الأوقات والأزمنة المهدرة فيما يضر في الأغلب الأعم، فعصرنا يمر مرور البرق فيخطف الأنفاس ويقبض اللحظات ليذهب بها بعيدًا لا نكاد نُدرك كنهها أو حتى أوصافها العرضية، إنه عصر البحث عن كل شيء والبحث عن امتلاك كل شيء بأي وسيلة سواءً شرعية أم غير ذلك.

هو عصرُ الرغبة في أن يكون الفرد حاويًا لكل الصفات والمزايا وحاملًا لكل المتناقضات، فهو يُريد أن يكون شبيهًا بالرسل والأنبياء ويُريد أن يكون شبيهًا بعتاة المجرمين والسفاحين والقتلة، وما مسلسل (رشاش) منا ببعيد، فقد أفقد هذا المسلسل صواب وأفئدة أبنائنا فأصبحوا يُحاكون ما يُعرض في كل سكناته ولحظاته ويمارسونه في شوارعنا وحاراتنا (وقد شاهدت بأم عيني في منتصف الليل شابًا يمثل بعض المشاهد الدموية كي يلتقط صورها ويسجلها ثم ينشرها في بعض وسائل السوشل ميديا).

إن البحث عن السعادة هو مبتغى كل الأمم منذ بدأت البشرية، فقد سعى أبونا آدم للبحث عن السعادة فأخطأ مسارها، فأرشده الخالق إلى الطريق والمسار الحقيقي للسعادة بل وأمتن عليه بأن جعله خليفةً له في هذه الأرض حتى يبعث الله الأرض ومن عليها (في يومٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها)، ومنذ تلك اللحظة التي تم فيها ارتكاب ذلك الخطأ وبعد أن تم تصحيح المسار لبني البشر في كيفية الحصول على السعادة والبشر (لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) في كيفية الدخول في ظلال دوائر ومساحات السعادة، فالسعادة مصطلح وعبارة مبهجة مرغوبة، فهي مشترك معنوي يتساوى فيه بني البشر في بغية تحصيله والبحث عن طرق الاستحقاق عليه، فمن كان فردًا خيرًا ولا يُحدث أي أضرار للغير فهو بعمله وتصرفاته وتحركاته يبحث عن السعادة، وكذلك من كان فردًا صاحب شر وعمل ضار للغير فهو وإن أظهر الشر في عمله وأضر بالآخرين فهو في باطنه يظن ظنًا مستيقنًا منه أن عمله هذا يُحقق له السعادة ولو كان هذا التأويل لدى أصحاب العقول وذوي الحكمة والمنطق هو تأويل فاسد الاعتبار وباطل التنزيل ومتناقض مع فكرة وحقيقة السعادة.

كل الأحداث الماضية في تاريخ الأمم كان عنصر البحث عن السعادة محددًا رئيسيًّا في حدوثها واتخاذ قرارات المضي في تكوينها وسرد تفاصيل وقائعها، ولا شك أن هذا كان ظاهرًا وبينًا في تاريخ أمتنا الإسلامية منذ بدايات الاختلاف على الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد كان الخروج عليه والحنق والغضب من قبل تلك الشرذمة الغوغائية بسبب أنهم كانوا يفتقدون، فيما زعموا، شيئًا من مسارات السعادة، والجنوح الآثم الذي رددوه بأن عثمان رضي الله قد غير وبدل في سيرته عن مسار من قبله، وكذلك الكذب على عثمان رضي الله عنه بأنه قد قدم أقاربه في الوظائف والأعطيات، وهذا الزعم والظن الخاطئ في أن حقوقهم كانت مسلوبة عند التمحيص والتحقيق التاريخي واستقراء جميع الوقائع التي انتقدوها فإنها لا تقوى في أن تكون أدلة صحيحة صريحة فيما زعموه بل كانت ظنونًا وأوهامًا اختلطت بشيء من حب الزعامة مع جهل كبير بأصول ومقاصد الشريعة، ومع ذلك فقد كان الظن الذي ترسخ بفقدان الإحساس بالسعادة من قبل تلك الغوغائية سببًا في حروب لا أول لها ولا آخر.

وهكذا كانت الخلافات بين الأديان والفرق المختلفة عقديًا في الدين الواحد تسعى لامتلاك الحقيقة من أجل الوصول للهدف والغاية وهي السعادة في الدنيا والآخرة، فالسعادة فيما أفهمه وما خرجت به من فهمي من سرديات العلماء والمفكرين وممن كتب في فلسفة السعادة منذ أرسطو ومرورًا بفلاسفة العرب ثم فلاسفة الغرب بعد ذلك حتى فلاسفة عصرنا ومن أهمهم الفرنسي (ألان باديو) صاحب كتاب (ميتافيزيقيا السعادة الحقيقية) ومن خلال خبرتي المتواضعة في الحياة فالسعادة: هي الاستقرار الآمن المتصف بالطمأنينة الذاتية والمتحقق فيها الرضا الحقيقي النابع من الذات الإنسانية بكل ما جرى ويجري ما سيجرى لها مستقبلًا وقطع النفس وقسرها بالإكراه في عدم التطلع لما عند الآخرين من نعم والرضا بما لديها.

وقد وجدتُ شاهدًا واقعيًّا في جواب قد أسرني لمسن أمريكي حكيم عندما بادره ذلك الموثق للحظات في السوشل ميديا بسؤال فلسفي معقد قد أفنى كثير من الفلاسفة والمفكرين سني أعمارهم في الإجابة عنه، وهو: هل أنت سعيد؟ ثم ظهر ذلك المسن بمشيته الدالة على أن الدهر والسنوات قد عركته وجعلت منه كائنًا ضعيف البنية بيد أن عقله كان كبيرًا لتحمله تلك الحكمة الثقيلة وقد جعلها في جوابه حينما نظر إلى ذلك السائل وكرر سؤاله وكأنه يسترجع ماضيه وخبراته التي استمدها من عقوده الماضية التي تربو على السبعة عقود أو أكثر فقال: Am I happy?، ثم قال: أكيد أنني سعيد، فسأله الموثق: لماذا أنت سعيد؟ فقال المسن بفطريته بسبب أني حي فما دمتُ موجودًا حيًّا فأنا سعيد، ثم سأله الموثق فما هي نصيحتك للعالم والرسالة التي تُحب أن توجهها إليهم، فقال كلمة كانت مؤثرة جدًا لما يجري في عصرنا السريع الذي يبحث عن السعادة المعلبة وغير الحقيقية، فقال calm down & live your life ، فالهدوء والاستقرار والرضى بالحياة التي يعيشها ويُعاصرها هذا الإنسان هي السر في تحقيق السعادة.

لقد حضت الأديان على طرق للسعادة ومسارات توصل إليها، ومن ذلك ديننا الإسلامي فقد ظهرت فيه مزايا كثيرة في تحقيقها، ومنها ما ورد في حديث عظيم يحتاج إلى تأمل وتفكر وهو ما رواه ابن حبان[1] في صحيحه وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ الْجَارُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ الضِّيقُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ)، فهذه الركائز الأربع هي من الأسس في تحقيق الطمأنينة والاستقرار والرضا النفسي الذي يجعل الذات والروح الإنسانية في حالة آمنة ومتزنة، تعي أن هذه الدنيا ستُظهر ما لديها سواءً كان ذلك الظهور لتلك المقادير تمس تلك النفس الإنسانية بسوء أم بخير، وأن ما لم يكن لهذه النفس البشرية أي سيطرة عليه فهي غير ملومة على ظهوره وحدوثه وليس لها إلا أن ترضى وتعمل من خلال الطمأنينة والاستقرار وما عدا ذلك فلن يُحقق لها أي سعادة، لذا فمن مهام مراكز البحث والتوعية المجتمعية والتعليم بجميع فروعها وأقسامه أن يوضح حقيقة ماهية السعادة الحقيقية وطرقها ويبين ويكشف ماهية السعادة الوهمية التي أصبحت خللاً حقيقيًّا وظاهرةً تحتاج إلى رعاية وعلاج حتى نتدارك ما يحدث من ظواهر سلبية تُربك الأمن والاستقرار المجتمعي.